إشكالية قصيدة النثر
هويدا محمد مصطفى
يعتبر الشاعر محمد الماغوط رائد قصيدة النثر العربية والتي كانت محطّ انتقادات كثيرة وواسعة، وخاصة من شعراء القصيدة التقليدية، وحكموا عليها بالنقصان والضعف الإبداعي. لم يتأثر الشاعر محمد الماغوط بكلّ تلك الانتقادات التي تحكم على قصيدة النثر وكتابتها، ولكنه آثر أن يبدع على طريقته وأسلوبه الخاص ووفق رؤية أدبية وشعرية يتقنها ويقتنع بها، وقد تفوق في تجربته الشعرية وأصبح بعد مدة رائداً في قصيدة النثر وشاعراً لا يشقّ له غبار فيها وفي صنعتها، بل أصبح أستاذاً للعديد من الشعراء الذين قلدوه وأعجبوا بتجربته الشعرية وأسلوبه الشعري الرائع في كتابة قصيدة النثر، استطاع الماغوط أن يحدّد الغاية والأهداف السياسية من كتابتها دون التقييد بشكليات وقواعد أصبحت متجاوزة في قصيدة النثر، وللحديث عن هذا الموضوع أخذنا بعض آراء الأدباء.
يقول الشاعر إبراهيم عباس ياسين: بعيداً عن التباسات المصطلحات والجدل الدائر حول المسميات وضبابية المعنى، أستطيع القول قصيدة النثر بوجه عام استطاعت أن تقدم،على أيدي بعض شعرائها المعروفين، إضافة بالغة للمشهد الشعري المعاصر على اختلاف الأشكال الفنية وتباين المستويات الإبداعية بين شكل وآخر، وأن ترتقي لمرتبة الشعر كفن إبداعي حقيقةً لا قولاً. ولعلّ المنجز الأكبر لهذه القصيدة أنها استطاعت أن تحدث انقلاباً في الخطاب الشعري السائد منذ عصور طويلة خلت، وأن تخرج بالقصيدة من دائرة الخطاب الكلامي، العادي والمستهلك، لصالح الشعري تحديداً. وأن تنطلق بالشعر إلى آفاق أكثر اتساعاً وفضاءات تتسم بحداثة الرؤية والصياغة معاً. وتمنح الحرية كاملة لطلاقة القول وحرية التعبير، دون أن تسقط في الواقعية الفجة والقرقعة اللغوية التي كثيراً ما نطالعها في القصائد الموزونة المقفاة، والتي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، لتكون بذلك قصيدة مستقلة بذاتها ولذاتها وقصيدة النثر عكس ما يتوهم الكثيرون، قصيدة ذات تقنية عالية، وكتابتها تحتاج إلى دراية بالغة بأسرار اللغة والإيقاع والتوليد المبتكر للصور، وإلى مقدرة فائقة على الانزياحات والتكثيف والومض وإثارة الدهشة. من هنا كان الإخفاق الحليف الأكبر للكثيرين من كتاب ولا أقول شعراء هذه القصيدة الذي أغوتهم بتحرّرها الظاهري من قيود وضوابط الشعر المعروفة، فدخلوا إليها آمنين، مطمئنين، ظناً منهم أن قصيدة كهذه لا تحتاج كتابتها لأكثر من التغريب في الكلام والمبتذل في المعنى، وإثارة شيء من الصخب والبلبة الإعلامية وبعض المتابعين والمصفقين ليصبحوا بعدها شعراء لامعين، مجددين وحداثويين أيضاً، ربحوا بلاغة النثر، ولم يقبضوا في النهاية إلا على ريح.
الشاعرة عبير سليمان تقول: يطيب للكثيرين اعتبار قصيدة النثر نمطاً أو جنساً أدبياً مستورداً من الغرب، وقد يبالغون في محاولة التقليل من شأنها أو اعتبارها دخيلة على الشعر العربي، لأنها تمثل انتهاكاً للشكل التقليدي للقصائد التي تدرّب القارئ والمستمع عبر مئات السنين على تقبلها بنموذجها الموزون الملتزم بالبحور والقافية والروي فقط، وعندما تنازل هؤلاء قليلاً عن هذه الشرطية الصادقة في تذوق قصيدة التفعيلة، على مضض غالباً، لأن ثقافتهم معدة ومصمّمة على النحو الذي يرفض السياقات المختلفة واللا محدودة التي يمكن أن تأخذها قصيدة النثر. إنها مثل الماء، فهي تأخذ شكل الإناء الذي توضع فيه. وخلافاً للمنطق المحدود الذي يحاكم بعض المتعصبين للقصائد العمودية شعراء قصيدة النثر بناء عليه مفترضين أنه يشق عليهم كتابة قصيدة موزونة لأن البحور بحاجة للتعلم والتمكن والمراس، إنني أرى أنه يمكن تعليم النظم لأي شخص راغب بذلك في فترة قصيرة، لكن لا يمكن تعليمه الشعر ولا الشاعرية ما لم يملك الموهبة والبراعة والقدرة على التأثير. لذلك نجد آلاف القصائد الموزونة لا تكاد تقدم جديداً ولا تستطيع مواكبة الحياة لأنها في معظم الأحيان أتت من التلقين والالتزام بالسياق المحدّد، غايتها ومنطلقها الجرس الموسيقي وليس هدفها التجديد. في غير مناسبة ذكرت أن قصيدة النثر ليست دخيلة علينا بل أصيلة في حضارتنا، وكانت منطلق الأدب ولغة التعبير في بلاد الشام والعراق قبل آلاف السنين، حيث كانت أسلوب الإنسان القديم للتعبير عن أحاسيسه وعلاقته بكل شيء لكن التركيز في دراسة الشعر الشرقي كانت على القصائد انطلاقاً من زمن الفراهيدي وحسب، بمعنى أنها محت وأنكرت كل ما قبله، وهنا لابدّ من القول: إن لم تملك شراباً طيب الطعم أو خمرة معتقة قف بعيداً عن تلك الأواني.
الأديب الشاعر رضوان فلاحة يقول: تنطلق إشكالية قصيدة النثر من إشكالية الفهم والمفهوم التي يؤسّس عليها المضطلعون بالنقد الأدبي تقييمهم ويبني عليها المفندون تصنيفاتهم الإجناسية والتجنيسية، وهنا تقع على التباين واحتدامات الدرس النقدي المنغلق على ذاته من جهة والمنفتح على التطورية والتوالدية المعرفية والفكرية من جهة أخرى، ولعل ما يجعل الإشكالية أكثر ضرورة هو الاستسهال العبثي من الكاتب والناقد، حال افتقارهما للذهنية العلمية والمعرفية المشبعة بروح الإبداع، والذي عزز بدوره المفاضلة غير المنظورة بين الأجناس الأدبية، وهو تقييم يغالط حوارية النقد والإبداع، ويسوق تراشقاته الاصطلاحية غير المبنية على منهجية فكرية والمنساقة وراء تصنيفات توهيمية ملتبسة كاصطلاح يذهب أكثر إلى ما يمكن أن أسميه مجاملة نقدية، فالشيء لا يعرّف بغيره.. وإذا كانت القصيدة قد كسرت قيود الموسيقا الخليلية، فذلك لا يجعلها خارج فضاءاتها الموسيقية، وإذا كانت القصيدة منضبطة ببحور الشعر فذلك لا يعني غناها بعناصرها الفنية الأخرى، وإن التلاقح بين الأجناس الأدبية أو العبور الانزياحي للنص الإبداعي إلى المسرحة أو الحكائية لا يعني خروجه عن هويته الإبداعية كفنية قيمية، ولا يشكل كسر الشكل التقليدي لبناء العمل الأدبي في الشعر والرواية والقصة، وإن كان منبلجاً من اتقاد فكري وفني مبدع، مدعاة حرجة للنقد إلا إذا كان ثمة قصور في التلقي النقدي له على أن يصل إلى مصاف الابتكار المبدع الذي يكسر المنطقية التقليدية كالشاعر جبران خليل جبران ومحمود درويش ومحمد الماغوط وأدونيس، وفي الرواية كالروائي الطاهر وطار وغيرهم، على مختلف الأجناس الأدبية ولعلّ هذا الاختباء المترهل لرهاب التقليدية بعباءة الدفاع عن الأصالة أو الانفلات العبثي من قيم الأصالة هما التياران الأكثر انغماساً في تكريس التراكمات العبثية واستجرارها.
الأديب فضيل عبد الله يقول: أدّت ولادة قصيدة النثر في الوطن العربي، وانتشارها في بقية العالم إلى تحول في أسلوب الكتابة الشعرية، وتأسيس سمة مشتركة بين الآداب العالمية، هذه الظاهرة الجديدة في النشاط الكتابي الإبداعي كانت نتيجة النشاط الفكري الهائل، وتبادل الأفكار بين شعراء العالم، خصوصاً بعد عصر الحداثة مما أتاح لهذا المولود قصيدة النثر أن يكتسب وصمة ثقافية عالمية، صحيح هناك من يعشقون قراءة الشعر التقليدي، ويقلقون من غرابة قصيدة النثر لأنها لا تتناسب مع الأسلوب التقليدي المعروف، لكن ما أريد توضيحه أن هذا النمط الجديد من التعبير هو ما ميّز الكتابات خلال هذه العصر التاريخي الأول، ولا يشك أحد في أن المشهد العربي وعلى كافة الأصعدة بعد هذا العصر الحديث قد تغير تماماً وأصبح عالم ما بعد التطور يختلف تماماً عن عالم وما قبل القرن الواحد والعشرين تقول سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر من بودلير إلى أديامنا (ولدت قصيدة النثر من التمرد وضد كافة أنواع الطغيان الشكلي التي تمنع الشاعر من أن يخلق لنفسه لغة شخصية).
ولأن قصيدة النثر من وجهة نظر النقاد هي النص الواسع والبوتقة التي تتمدّد كرؤية تاريخية ومستقبلية على الساحة الأدبية. يقول الناقد العراقي جمال قيسي: قصيدة النثر هي الخطاب الشعري الأخير للتاريخ الذي يلفظ أنفاسه، وهو في طوره الزوالي من ناحية الإبداع والخلق البشري، وقصيدة النثر هي الخلاصة العبقرية والكيان الأخير لكل الكتابات الشعرية، ولقد نجحت قصيدة النثر في تفجير الطوق الحديدي للتقاليد والوصايا التي كانت روح الشعر تختفي بها القافية والعروض وكافة قواعد الأبيات الكلاسيكية وأيضاً قواعد الأسلوب الشعري، وهي بذلك تشكل خرقاً حاداً لكل الأعراف الشعرية السابقة، ويكمن موقعها الإشكالي في كونها طرحت شتى مكونات العملية الشعرية التاريخية، وتشكلت كنوع شعري مغاير، استعصى قياسه على غيره وفي مراحل كتابتها المختلفة تتقدم قصيدة النثر باستمرار من الملموس الخاص إلى العام، ومن التجربة المادية إلى التجربة المجردة، ومن العاطفة إلى الفكر وبرغم ذلك لا تزال قصيدة النثر تحتفظ ببعض القضايا الجوهرية الثابتة. ويؤكد رواد قصيدة النثر، أن الأسلوب الجديد في الكتابة، لا يعني الابتعاد عن الماضي وجوهر الشعر التقليدي، لكنه يدعم الجوهر والأصل، وعن هذا يقول ت. س. إليوت: (الزمن الحاضر والزمن الماضي كلاهما مشتمل في الزمن المستقبل، ولعل المستقبل مشتمل في الزمن الماضي).