كابوس استراتيجي يتسلل إلى أجندة واشنطن السياسية
عناية ناصر
إن الحرب المتزامنة مع الصين وروسيا هي كابوس استراتيجي ظلّ بعض الاستراتيجيين الأمريكيين مثل هنري كيسنجر يحذّرون الولايات المتحدة من تجنّبه بأي ثمن، وهي أيضاً موضوع أصبحت بعض وسائل الإعلام الأمريكية مولعة بالحديث عنه بشكل متزايد في السنوات الأخيرة.
لم تتعامل واشنطن من قبل على الأقل من خلال المعلومات المتاحة على العلن مع الموضوع كأجندة سياسية رسمية، ويفترض أنها تدرك خطورته والمخاطر الرهيبة التي يحملها، لكن نشر تقرير في الثاني عشر من تشرين الأول الجاري من قبل لجنة مكونة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والتي تمّ تعيينها من قبل الكونغرس بعنوان “الموقف الاستراتيجي لأمريكا”، تجاوز هذا “الخط الأحمر”.
والنقطة المركزية في التقرير المؤلف من 145 صفحة هي أنه يجب على الولايات المتحدة العمل على توسيع قوتها العسكرية، وخاصة “برنامج تحديث الأسلحة النووية”، من أجل الاستعداد لحروب متزامنة محتملة مع الصين وروسيا.
من الجدير بالذكر أن التقرير ينحرف تماماً عن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الحالية المتمثلة في الفوز في صراع واحد مع ردع صراع آخر، وعن السياسة النووية الحالية لإدارة بايدن، وهو ليس خيالاً بين الرأي العام الأمريكي، بل هو تقييم استراتيجي جاد وتوصية في خدمة عملية صنع القرار السياسي.
لقد تمّ اختيار اللجنة التي كتبت التقرير والمكونة من 12 عضواً من قبل الكونغرس الأمريكي من بين مراكز الأبحاث الكبرى ومسؤولي الدفاع والأمن المتقاعدين والمشرعين السابقين. يظهر هذا التقرير أن “كابوساً استراتيجياً” يتسلل إلى الأجندة السياسية الأمريكية، لكنه لم يحظَ بالاهتمام واليقظة الواجبين في واشنطن، ولذلك تعمل مجموعة النخبة الأمريكية الممثلة باللجنة بنشاط إلى حدّ كبير لجعل هذا الكابوس يصبح حقيقة.
إن إلقاء نظرة على التوصيات المحدّدة الواردة في هذا التقرير سوف تبعث على الخوف بالنسبة لأولئك الذين يحتفظون بأية عقلانية. ويوصي التقرير بأن تقوم الولايات المتحدة بنشر المزيد من الرؤوس الحربية، وإنتاج المزيد من القاذفات، وصواريخ كروز، وغواصات الصواريخ الباليستية، والأسلحة النووية غير الإستراتيجية وما إلى ذلك. كما يدعو الولايات المتحدة إلى نشر رؤوس حربية على الصواريخ الباليستية الأرضية العابرة للقارات، والنظر في إضافة صواريخ باليستية عابرة للقارات إلى ترسانتها، وإنشاء حوض بناء سفن ثالث يمكنه بناء سفن تعمل بالطاقة النووية، وما إلى ذلك.
إلى أية درجة من الجنون وصلت إليها الولايات المتحدة؟ يمثل الإنفاق العسكري للولايات المتحدة ما يقرب من 40 في المائة من إجمالي نفقات الدفاع في العالم، وهو ينمو بشكل كبير منذ عدة سنوات، حيث وصل الإنفاق العسكري في عام 2023 إلى 813.3 مليار دولار، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي لمعظم البلدان، ولكن حتى هذا ليس كافياً بالنسبة لهؤلاء السياسيين. إن مثل هذا التقرير المليء بالتعصب الجيوسياسي وصور الحرب، سواء انتهى به الأمر بالفعل إلى “دليل أو كموجّه” لعملية صنع القرار في واشنطن أم لا، هو أمر خطير ويجب مقاومته ومعارضته من قبل جميع الدول المحبة للسلام.
وبحسب بعض وسائل الإعلام الأمريكية، فإن التقرير يتجاهل عواقب سباق التسلح النووي. وفي الواقع، لا يبدو أن التقرير يأخذ هذا الأمر في الاعتبار على الإطلاق، ولا يقترح أي إجراءات أخرى غير توسيع الانتشار النووي لمعالجة هذه القضية. وبعبارة أخرى، أنه يعتبر نهجاً متهوراً.
إن كلاً من الصين وروسيا قوتان نوويتان، والجميع يعلم أن إثارة المواجهة بين القوى النووية فكرة مجنونة، وحتى الترويج لسباق تسلح نووي تحت شعار “الردع” يشكل خطوة كارثية إلى الوراء، ولا يمكن للنخب السياسية في واشنطن، التي عاشت الحرب الباردة أن تجهل هذه الحقيقة. ومع ذلك، فإن حقيقة أن مثل هذا التقرير السخيف وغير المألوف يتمّ تقديمه بكل جدية من قبل الكونغرس الأمريكي هو أمر سريالي وغير مفاجئ، وهو يتماشى مع الأجواء السياسية المشوهة في واشنطن اليوم.
إن الدوافع وراء هذه المبالغة في التهديدات وخلق أجواء حربية مثيرة للريبة إلى حدّ كبير، كما تسبّب اندلاع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مؤخراً في زيادة حادة في مخزونات صناعة الدفاع الأمريكية، في حين كانت شركات صناعة الدفاع الأمريكية أيضاً أكبر المستفيدين من الصراع الروسي الأوكراني الذي طال أمده. إن المجمع الصناعي العسكري، مثل المسخ الجيوسياسي، يتشبث بالمجتمع الأمريكي بشكل طفيلي، ويتلاعب بكل تحركاته، ويدفع واشنطن خطوة بخطوة لتقديم والاستعداد لأفكار كانت تعتبر ذات يوم “مستحيلة”. إن ازدهار المجمع الصناعي العسكري الأمريكي مبنيّ على الدم والجثث، ويحمل في طياته ذنباً أساسياً، كما أن خدمة مصالح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي أمر غير أخلاقي.
والحقيقة هي أن مثل هذا الخطاب أصبح مقبولاً سياسياً على نحو متزايد في واشنطن اليوم. إن فكرة “الاستعداد لحروب متزامنة محتملة مع روسيا والصين”، والتي كانت ذات يوم مجرد خيال هامشي، قد شقّت طريقها تدريجياً إلى أجندة واشنطن، وهو أمر مقلق للغاية. وإذا تبنّت واشنطن ولو جزءاً صغيراً من التوصيات الواردة في هذا التقرير، فإن الضرر والتهديدات التي يمكن أن تشكلها على السلام العالمي ستكون غير قابلة للقياس، وسوف تأتي بنتائج عكسية في نهاية المطاف على الولايات المتحدة نفسها، فمن يلعب بالنار سيهلك بها، وهذا أمر يتوجب على واشنطن أن تدرسه بعناية.