الكارثة في انحدار واشنطن إلى عقلية نتنياهو الانتقامية
عناية ناصر
منذ السابع من تشرين الأول الجاري، أصبح عنوان “إسرائيل في حالة حرب” العنوان الرئيسي الذي يُبثّ على مدار الساعة على القنوات الإخبارية العالمية. لكن بالنسبة للجمهور الدولي، فإن العدوان الإسرائيلي الأخير تجاوز كونه مجرد خبر عاجل، حيث أصبح لمحات مدمرة عن الحياة اليومية للفلسطينيين. وفي حين كانت معاناة الفلسطينيين وموتهم ودمارهم قصة تجاهلتها معظم وسائل الإعلام لفترة طويلة أو اعتبرتها أمراً مفروغاً منه، إلا أن التطور الجديد وغير المتوقع في ذلك اليوم كان في الهجوم المفاجئ ضد “إسرائيل”، حيث كان الهجوم الذي شنّته المقاومة في أراضي عام 1948 بمثابة تحول ملحوظ في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولاسيما منذ عام 1973.
لقد كان الهجوم بالنسبة لـ”إسرائيل” والولايات المتحدة ودول المنطقة، بمثابة تذكير بـ”المعروف”، وهو وجود الفلسطينيين. كما سلط الضوء على “المجهول المعروف”، والذي جعل من الواضح أن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي سوف يديم حالة الحرب المتواصلة. بينما “المجهول المعروف”، حيث، بغضّ النظر عن ضعف المحتل، فإن المقاومة ستستمر طالما استمر الاحتلال، وأخيراً، لفت هذا “المجهول المجهول” انتباه العالم، وسلط الضوء على العواقب المحتملة لتزويد “إسرائيل” بدعم غير مشروط وغير خاضع للمساءلة في سياق الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط والعالم.
غير مفاجئة
ضمن المعلومات التي كانت “معروفة” أو متوقعة، سارع الخطاب الإعلامي السائد إلى إجراء مقارنات بين عملية 7 تشرين الأول وهجمات 11 أيلول، ووصفها أحياناً على أنها فشل استخباراتي. ومن الجدير بالذكر أن أحداث 11 أيلول كانت هجوماً فاق كل التوقعات، وتجاوز حدود المعقولية حتى في سياق الخيال العلمي المعاصر، وبالمثل، كانت عملية 7 تشرين الأول غير مسبوقة من حيث الحجم والتنفيذ. ومع ذلك، في مواجهة مثل هذا الاحتلال الوحشي، لا يمكن اعتبار عمليات المقاومة مفاجأة، حيث أدت تصرفات “إسرائيل” خلال العقدين الماضيين على وجه الخصوص إلى القضاء على أي أمل في التوصل إلى حلّ سياسي. ولم تؤدِ سياسات الفصل العنصري إلى محو أي مظهر من مظاهر السلامة الإقليمية الفلسطينية فحسب، بل وسّعت أيضاً مستعمراتها المدعومة عسكرياً في كلّ شبر من الأراضي الفلسطينية المتبقية. فضلاً عن ذلك، فإن القرار الذي اتخذته “إسرائيل” بتحويل غزة إلى “سجن مفتوح” ، أو “معسكر اعتقال” بشكل أكثر دقة، كان سبباً في تفاقم المظالم التي طال أمدها. في جوهر الأمر، لم يكن من الممكن لأي مستوى من التحفيز أو التنظيم أو الإعداد أن يهيئ الأحداث بشكل أكثر فعالية من الممارسات الراسخة لدولة الفصل العنصري في “إسرائيل”.
وبعيداً عن سياسات الاحتلال الوحشية التي تنتهجها “إسرائيل”، ربما تكون القضية الأكثر أهمية هي استمرار تل أبيب في إنكار الوجود الفلسطيني في أي سياق من شأنه أن يغيّر الوضع الراهن. لقد أصبح من الشائع داخل الدوائر السياسية الأمريكية والإسرائيلية أن الفلسطينيين، وخاصة فصائل المقاومة الفلسطينية، ينكرون “حق إسرائيل في الوجود”. بالنسبة لأولئك الذين يسكنون الأراضي المحتلة، فإن هذا الخطاب يخدم بشكل أساسي كوسيلة للمقاومة اللفظية، لكن بالنسبة لـ”إسرائيل”، فالأمر لا يقتصر على الخطابة، إنها طقوس يومية من الإنكار. وإلى أن تتصالح “إسرائيل” مع وجود الفلسطينيين، وتمنحهم الاعتراف الواجب بحقوقهم المشروعة، فإن التوصل إلى حلّ سياسي أو عسكري للأزمة المستمرة سوف يظلّ بعيد المنال.
ومن خلال القضاء على كل مسار يمكن تصوره نحو حلّ الدولتين، عززت “إسرائيل” مكانتها كنظام فصل عنصري، ولم تُدخل فلسطين إلا بالكاد في المعادلة، لا في حسابات قيادتها السياسية ولا في الوعي الجماعي لمجتمعها الأوسع. في الواقع، لم يسجل الفلسطينيون على رادارهم، لا كأفراد ولا كمعضلة سياسية ملحة.
إن اضطراب العقل السياسي الداخلي في “إسرائيل”، والحروب المستمرة منذ عقود وأزمة الديمقراطية في بلدان المنطقة، وانحياز أمريكا الأيديولوجي والعقائدي الواضح تجاه “إسرائيل”، مما ينفي بشكل كامل دورها كوسيط، والواقع أن عدم أهمية أوروبا على المستوى الجيوسياسي أكثر من كافٍ لتحويل الأزمة الحالية إلى طريق مسدود.
أزمة مصداقية واشنطن
لا يمكن إنكار أن المشهد الحالي قاتم، ومع ذلك، وفي ظل هذا الجو السائد من التشاؤم، يمكن أن يمثل يوم 7 تشرين الأول إعادة ضبط كبيرة للقضية الفلسطينية والجغرافيا السياسية للمنطقة. أولاً وقبل كل شيء، يتعيّن على الفلسطينيين أن يدركوا أنه على الرغم من أن المصاعب التي تحمّلوها لعقود من الزمن قد لا تنتهي في المستقبل القريب، إلا أن هناك احتمالاً لحدوث اختلاف وعهد جديد في أعقاب هذه الحرب.
لقد أثبت الفلسطينيون وجودهم بشكل لا لبس فيه للعالم، على الرغم من أن ذلك جاء بتكلفة بشرية باهظة. ومن أجل تجنّب استمرار الخسارة المأساوية في أرواح المدنيين في غزة وإحياء الآمال في التوصل إلى حلّ، فإن الفصائل الفلسطينية في حاجة ماسة إلى منظور سياسي وطني جديد، إذ يكون خطأً فادحاً اختزال هذه الأحداث الأخيرة في قضية غزة، أو مجرد وسيلة لتبادل الأسرى أو التوصل إلى صفقة أمنية محفوفة بالمخاطر مع “إسرائيل” أو غيرها من القرارات المؤقتة والمكاسب من الدول المجاورة.
عند دراسة ردود أفعال كلّ من واشنطن وأوروبا تجاه الأزمة المستمرة، فقد لا يجد المرء سبباً كافياً للتفاؤل. علاوة على ذلك، فإن تعليق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: “أنا هنا كيهودي في إسرائيل”، وسط دعم أيديولوجي وعسكري قوي من أمريكا، يبدو بمثابة ملاحظة غير مدروسة تعمل على تفاقم الانقسامات العرقية والدينية. وهذا أمر مثير للقلق بشكل خاص بالنظر إلى أن سياسة واشنطن في الشرق الأوسط التي تتمحور بشكل كبير حول “إسرائيل”، مما يزيد من خطر مواءمة السياسة العالمية مع الجغرافيا السياسية الأمريكية التي تركز على “إسرائيل”.
إن إمكانية قيام أمريكا وأوروبا بأدوار جوهرية في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط تتوقف على قدرتهما على تجاوز محاولة “إسرائيل” اختزال أحداث 7 تشرين الأول في مجرد أعمال انتقامية. في عالم تتصاعد فيه المنافسة والأزمات الجيوسياسية العالمية يومياً، هناك شك كبير حول الفطنة السياسية للرئيس جو بايدن وحنكته الجيوسياسية لتجاوز مستوى الحنكة السياسية التي تعرضت للانتقاد والسخرية خلال عهد ترامب.
تجدر الإشارة إلى أن إدارة بايدن تخلفت عن الضمير الجماعي لمجموعة سكانية يهودية واسعة، والتي انتقدت علانية سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الشوارع الإسرائيلية منذ أشهر. ويبدو الآن أن الإدارة الأمريكية تنحاز إلى ما وصفه إدوارد سعيد ذات مرة بمحور “الصهيونية الأمريكية”. لقد فشل الانتقام والسعي إلى الانتقام على نحو مستمر في التوصل إلى حلّ سياسي في الشرق الأوسط، وتكمن الكارثة المحتملة في حال انحدار واشنطن إلى عقلية نتنياهو الانتقامية.
تعكس التصريحات المتعصبة الأخيرة التي أطلقها الساسة الأمريكيون في أعقاب هذه الحرب الأخيرة، والتي تبرز حتى في سياق ما بعد الحادي عشر من أيلول تحولاً ملحوظاً في السياسة الأمريكية عبر الطيف السياسي، سواء كان الرئيس بايدن يدّعي زوراً أنه شاهد صور أطفال إسرائيليين “مقطوعة الرأس” أو السيناتور ليندسي غراهام الذي يدعو صراحة إلى “قصف إيران”، وهو ما أكده إعلانه “نحن في حرب دينية هنا”، في إشارة لا يمكن إنكارها إلى تحول جدير بالملاحظة في فحوى الرد الأمريكي.
يفرض هذا السيناريو مخاطر جيوسياسية وأمنية كبيرة، وتمتد إلى ما هو أبعد من المنطقة إلى المنافسة على القوى العالمية، ويتعيّن على الولايات المتحدة أن تبدأ في البحث عن إجابات فيما يتعلق بمستقبل الفلسطينيين من خلال إشراك الجهات الفلسطينية الفاعلة، فضلاً عن اللاعبين الإقليميين من خلال خريطة طريق.
في هذه المرحلة، قد يكمن البديل لخرائط الطريق الساذجة والانفتاحات الجديدة في نقل المنافسة الجيوسياسية العالمية بسرعة إلى المنطقة. وفي ظلّ هذه الظروف، فإن إدارة نتنياهو سوف تتراجع إلى هامش تاريخي، وستكون تداعيات الاضطرابات اللاحقة أكثر خطورة بكثير، وليس من الحكمة أن يكون حل الأزمة خاضعاً لتقدير أمريكا المنفرد. فقد شهد العالم كيف يمكن للأزمة، في ظل التحالف الأمريكي الإسرائيلي، أن تتصاعد إلى كارثة لغزة، واندلاع الصراعات في المنطقة، وتؤدي إلى تحديات أمنية عالمية كبيرة.
لقد كانت مذبحة المستشفى المروّعة والإبادة الجماعية في غزة نتيجة للتأييد الثابت للاحتلال الإسرائيلي باعتباره “حق الدفاع”، والذي يبدو أن بايدن والزعماء الأوروبيين يستمدون ارتياحاً كبيراً من التركيز عليه.