شهادات جامعية غير صالحة لسوق العمل! نحتاج لتخصصات جديدة مع بروز التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي
البعث الأسبوعية- غسان فطوم
عادة ما ترتبط كلمة “تضخم” بالاقتصاد للتعبير عن سوء أحواله وأوضاعه، والذي يتجلى بشكل واضح في انهيار القدرة الشرائية للعملة المحلية أمام الارتفاع الكبير لأسعار السلع والمواد بمختلف أنواعها، مما يؤدي بالنتيجة إلى وضع اقتصادي ومعيشي وخدمي متأزم يُدخل الاقتصاد في متاهات كثيرة تهدد بانهياره.
اليوم ثمة تضخم من نوع آخر بتنا نعاني منه منذ فترة طويلة، وهو التضخم التعليمي الذي بدأ الحديث حوله يُثار بكثرة ، ليس على مستوى سورية، وإنما في غالبية دول العالم الذي يشهد كساد في الشهادات الجامعية التقليدية غير المطلوبة في سوق العمل بعد أن تغيرت حاجاته ومتطلباته.
لم تؤخذ بالاعتبار!
أكثر من مرة أشرنا إلى أن التخصصات العلمية في الجامعات السورية بحاجة لتجديد وتطوير، فمن يطلع على أسماء التخصصات في بطاقة المفاضلة الجامعية مطلع كل عام دراسي لا يجد أي جديد فيها إلا ما ندر، وما يزيد الطين بلة هو استمرار القبول في التخصصات الراكدة وبأعداد ليست قليلة، بالرغم من أن قطار فرص العمل تجاوزها منذ سنوات، مما تسبب في فائض في عدد الخريجين المنتظرين في محطة الأمل، وبالنتيجة زيادة مخيفة في نسبة بطالة العاطلين عن العمل من الخريجين الجامعيين وهي البطالة الأشد إيلاماً والتي ما زلنا غير قادرين عن وصف الدواء الشافي لها أو على الأقل التخفيف من آلامها في ظل غياب الخطط والإستراتيجيات لتشغيل الشباب واستثمار طاقاتهم المهدورة!.
أوقفوا هذه التخصصات!
من وجهة نظر أستاذ التربية الدكتور آصف يوسف أن هناك الكثير من الاختصاصات النظرية، التي يجب إيقاف التسجيل فيها لفترة محددة، مشيراً إلى أن دول عديدة فعلت ذلك، ومؤكداً على ضرورة توجيه خريجي الثانوية، وخاصة في الفرع العلمي إلى المعاهد وتخصصات الهندسات التطبيقية التي تنمي المجال الصناعي المهني، إضافة إلى ضرورة العمل على زيادة الحوافز لتخصصات لا أحد يختارها من الطلبة بسبب تدني سويتها المادية والأمثلة كثيرة، كما يجب إعادة الالتزام بالوظيفة للتخصصات التعليمية كلها وإلا سيقضى نهائياً على التعليم، عندما يصبح غير مرغوباً من الشباب، فالهجرة باتت تدغدغ أحلامهم أمام الظروف الصعبة التي نعيشها اليوم!.
استشراف المستقبل!
ما طرحه الدكتور “يوسف” أكد عليه عدد من زملائه، حيث انتقدوا التأخر في إحداث تخصصات جديدة تحاكي تطورات العصر، وبعضهم استغرب غياب التوجيه الجامعي الحقيقي نحو الاختصاصات المطلوبة في سوق العمل، مشيرين إلى أن المعارض والندوات وغيرها من النشاطات التعريفية بأهمية اختيار التخصص لطالب الثانوية لا تجدي نفعاً طالما لا توجد تخصصات جديدة!، متسائلين: أين التخصصات التي ترتبط بالتطور والتحول الرقمي والإدارة الرقمية، ولماذا لا يوجد لدى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والجهات الأخرى ذات العلاقة فريقاً متخصصاً لاستشراف المستقبل الوظيفي، من خلال وضع دراسات حول ما يريده ويحتاجه سوق العمل في سورية لمدة تزيد عن عشر سنوات قادمة، بدلاً من حشوه وحشره بخريجين فقدت شهاداتهم صلاحياتها للعمل؟!.
وبهذا الصدد نشير هنا إلى إحدى الدراسات التي أجريت مطلع عام 2023 إلى أن “التخصصات الرقمية تحظى باستقطاب الشباب كونها الأكثر قبولا في سوق العمل في كل دول العالم”.
أمر واقع!
في حديث مع العديد من طلبة الثانوية في مراكز تسجيل المفاضلة سجلوا بعض الملاحظات على جدول الرغبات، مشيرين من خلالها إلى قلة التخصصات التي تُعنى بعلم البيانات والروبوتات والذكاء الاصطناعي، والتسويق الإلكتروني، وهندسة أمن الشبكات، وتخصص الخدمات اللوجستية وغيرها الكثير، وهي برأيهم تخصصات سيكون لها شأن كبير في سوق العمل، ولم يخفِ البعض منهم أنه سجل رغباته على مضض على أمل إعادة الثانوية لربما تقوم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بإحداث تخصصات جديدة تلبي طموحاتهم، في الوقت الذي طالب آخرون بتجميد بعض التخصصات التي أصبحت عالة على سوق العمل، واستبدالها بالجديد المطلوب محلياً وعالمياً.
فرصة مناسبة
صحيح أن الطلب على التخصصات في الجامعات، يختلف بين دولة وأخرى، حسب حاجاتها وخططها التنموية، لكن برأي العديد من خبراء التنمية أننا في سورية نحتاج لتخصصات جديدة تتناسب ومرحلة إعادة الاعمار، والتي تشكل فرصة للجامعات السورية الحكومية والخاصة لمواكبة تطورات العصر، وتحقيق ما تتطلبه السوق السورية التي تحتاج لمهارات جديدة لم تكن مطلوبة سابقاً ويقتضي وجودها اليوم لتتناسب وطبيعة المرحلة والاستحقاقات والمشاريع التنموية التي تحتاجها سورية خلال الفترة القادمة.
التنسيق والتشاركية
بالمختصر، من لا يحاول أن يتغير لا يمكن أن يتطور في أي مجال كان، فاستمرار التنمية في المجتمع يلزمها تعليم عصري ذو جودة عالية أي من طراز القرن الـ 21، فأي تأخر في تبني السياسات والخطط التطويرية بهذا الخصوص سوف يتخطانا قطار التنمية التي نريدها، لذلك بات مهماً جداً إيلاء الاهتمام بمتغيرات السوق وتطوراته سواء محلياً أو عالمياً، فليس مقبولاً بعد اليوم أن تبقى الجامعات مفرخة للعاطلين عن العمل!.
إن التنسيق والتشاركية بين الجهات المعنية وخاصة وزارات التعليم العالي والتنمية الإدارية والتربية يجب أن يكون حاضراً وقائماً دائماً من أجل إعداد جيل مؤهل من الخريجين باختصاصات تنسجم مع ما هو مطلوب أولاً بأول في سوق العمل المتغير في ظل الثورة التكنولوجية الحالية التي نشهد فيها كل يوم انجازاً جديداً لا ينفع معه الركود أو التضخم التعليمي!.