كيف عبّر فنانون عرب وعالميون عن الطوفان الفلسطيني بضمير مقاوٍم؟
غالية خوجة
ترتجف الريشة وهي تنغمس بمشاعر الفنان قبل ألوانه لتكتب نصها المتشبّع بإنسانيته، المتشبعة بنزيف الواقع المتشظي مع ما يحدث في عالمنا العربي، وكيف استطال هذا الجحيم المتوحش الإرهابي لينال من الأطفال والعجائز والنساء والحجارة والبراري والأوطان، وكيف تقاوم هذه الوحشية أرواح مصرّة على الانتصار للحق بالحق.
الطوْفان وطواحين المجازر
تدور طواحين المجازر فيقاومها الطوفان الفلسطيني، وتراها ريشة ناجي العلي كما رأتها كلمات غسان كنفاني، ومحمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني وجبرا إبراهيم جبرا، فتنبت القطرات الأرجوانية زعتراً وبرتقالاً وزيتوناً وسندياناً وفراشاتٍ وطيوراً، وتعشب وهي تنطلق مع رسومات الفنانين والفنانات المبصرين بضمائرهم حق الفلسطينيين في وطنهم، فتبزغ مثل المظلات التي رسمها ناجي العلي بضميره لترتفع مع الأبطال المقاومين في السابع من تشرين، وتحلق الرموز الفلسطينية الفلكلورية بكل دلالاتها ومنها الكوفية الفلسطينية مع لوحة السوري ضياء الحموي لتبدو نسراً من النور في فضاءات الدم البريء، يعبر من النيران المعادية إلى السماء.
وتستقر برمزية القدس كملامح للوجه الفلسطيني في لوحة السوري فريد شنكان، والتي تشمل كل فلسطيني يجسّده بطل اللوحة بماضيه وحاضره ومستقبله، وتلمع تأملاته بالنور الذي يمثله اللون الأبيض، بينما تتداخل الخطوط مع اللون الأسود لتعكس بلوحاتها المصغّرة الأحداث ومكانيتها على مدى الليل والنهار.
بينما ترتفع هذه الكوفية المغمسة بالدم بقبضةٍ مقاوِمة رسمها السويسري مارك رودين ـ جهاد منصور.
وتطل مع تراث الأجداد وهم يحضنون زهرة المدائن في لوحة الفلسطيني الدمشقي رائد القطناني، وتبدو في لوحته الأخرى تلك الصامدة بزيها الفلكلوري، ويشفّ قلبها لنراه قلباً مزروعاً متشكلاً بخارطة فلسطين، وتكون في لوحات أخرى برمزية القبضة المورقة بالشهادة والحجارة، أو القبضة المعمّرة المخشوشنة بالعمل والمحبة وهي تطلق حمامات السلام، أو تزهر عندما تكون قبضة لطفلة شهيدة، وتصير كفاً لجدة تحمل صينية العنب، وكفاً لأم تشعل الشموع في المعابد.
مسرودات الرموز العريقة
وتتجذر عروساً مريمية مع شجرة البرتقال في لوحة الفلسطيني الأردني عماد أبو أشتية، فتجلس ملكة منتصرة عبْر العصور على جميع الغزاة بشخصياتهم المطأطئة وكأن الأرض تردّد مع درويش: “أيها المارون بين الكلمات العابرة احملوا أسماءكم وانصرفوا”.
وتنعكس حالات هذه الأرض الفلسطينية بهيئة إنسان مؤنث مقاوم، صابر، صامد، متفائل بالنصر رغم التضحيات، ومن هذه الحالات نهوض هذه السيدة ـ الأرض من ركام الحروب والدمار والقتل والتهجير، فتعمّر مع الشمس وطنها الذي لا تنفصل تربته عن جسدها المتشبّث بالتأريخ والحضارة والأمل الدائم بالانتصار.
وهذا “الجسد ـ الأرض ـ الوطن ـ فلسطين” لا تتغيّر حركته الشامخة الجبلية، بل تتنوع إيقاعاته مثل موسيقا التراث الفلسطيني بعمرانه وعاداته وتقاليده وحكاياته وزركشات فستانه ونقوشه ومآذنه وكنائسه وقدسيته، فتحفل المشاهد المسرودة في اللوحات برموز عريقة، وملامح وجهية عربية فلسطينية متفائلة رغم الحزن والحداد والدم المراق، وتتمركز متحولات الدلالة بين الملامح والقلب والجسد تمركزاً جمالياً يحضن الكتلة ومروياتها بفراغات الأعمال المطلة على القادم الذي لن يكون غائباً، بل حاضراً مع متحولات المكانية التي يصير فيها الوطن الفلسطيني جبلاً، ومظلة تذرف دماء الشهداء بهيئة أوراق الغار والزيتون، وتلتحم مع رائحة الموت بلونها البني والأزرق والبنفسجي والأرجواني، لتتجلى في لوحات أخرى طفلاً يشبه حنظلة يلفّ علم بلاده على عنقه ويرتدي كفن الشهادة ويحدق مع حمامة السلام ليس إلى الاحتضار، بل إلى الأمل الأزرق المتلاقي في نقطة تجتمع فيها الأرض مع قلبه والسماء.
فنيات واثقة بالنور
وتتحول هذه الرموز إلى لوحة فوتوغرافية وهي تحزم رؤوس الشهداء الأطفال في المعمداني وتحلق مع أجنحتهم إلى السماء التي تبدو في لوحة أخرى لفنان آخر، وكأنها برزخ يرتسم كخارطة فلسطين مع الأرض من أول الشارع المشجر لآخره، ومع أول لحظة للزمان إلى آخر لحظة للزمان.
وتتشكّل اللحظة الفلسطينية بثوانيها المؤلفة من الشهداء، وتتراكم نوراً ملحمياً لن ينطفئ إلاّ بالتحرر من طغيان الكيان، وتتخذ تشكيلات متنوعة في أعمال فنانين آخرين، ومنهم المكسيكي أنطونيو رودريغز الذي رسم فلسطين وشهداءها الأطفال بهيئة سرير رضيع مكتوب عليه بالإنكليزية غزة، وتتدلى قنابل الموت الصهيوني على الرضيع، لتكتب مجازره الوحشية.
وتظهر فلسطين في لوحة الفلسطيني مؤمن الشايب شابة ملائكية بفستانها الأبيض المزركش بنقوش تراثية فلسطينية، تحضن بيدها اليمنى فلسطين، وبجناحها الأيسر الأبيض الأجيال الفلسطينية الرافعة للعلم الفلسطيني.
ونجدها في لوحة الفلسطيني الحلبي محمد أبو صلاح القبضة التي ترفع إشارة النصر وسط بحر من الدماء والضياء والتراب الفلسطيني، والملفت أن كل أصبع هو عبارة عن شهيد أو شهيدة، أي إنسان مكفّن بالأبيض وممسك بالوطن المقاوِم.
وتلمع في لوحة الكاتبة فاطمة إسبر أنثى من نور شهيد تتحزم بألوان العلم الفلسطيني، تمسك بشجرة من دماء الشهداء وشجرة من الضوء تتوالد أجيالاً، غير آبهة بالسواد لأن ملامحها الشامخة صارت شقائق نعمان وأزمنة من الطوفان.
وتشعّ بطيف ضوئي في لوحة الإماراتية سلمى المري وكأنها ضوء الأرواح الشهيدة الصامدة أمام النيران، الشامخة بين أزرق الماء ولازورد السماء المضمخ بطوفان من الأرواح البيضاء الملفوفة بهالات من أشعة الشمس.
ونلاحظ كيف تقف فلسطين بشموخها وخارطتها ومقاومتها وانتصارها في منحوتة الفنان البحريني جمال عبد الرحيم البرونزية لتطلّ من الصدر بشعاعها النوراني المحصن بالإنسان الفلسطيني الشهيد والحيّ على حدّ سواء، لأن الكتلة بلونها الترابي النحاسي تشير إلى التناغم المتكامل بين الشعب الفلسطيني وأرض وطنه المقاوم.
ويفضّل سليمان منصور أن يرسم التربة الفلسطينية المتشققة عطشاً بهيئة حمامة سلام تحنّطت وتشققت عطشاً للسلام وأصبحت بلون تمازجي واحد مع غصن السلام، إلاّ أن الأمل يظل مطلاً من خلال الضوء القادم من السماء رغماً عن الظلم والجوع والقهر الذي تمثّله لوحة أخرى لمنصور اختزل فيها جمهرة من الشباب الجوعى الذين يمطرهم العدو بصواريخ الإبادة.
وتنعكس إضاءات الإرادة بانعكاساتها الواقعية مع أبطال غزة وهم يهبطون بمظلاتهم الملونة ليس فقط من الأعمال الفنية، بل من اللوحة الواقعية التي شاهدها العالم بجماليات الدفاع عن الوطن ضد المحتل المتوحش الذي لم يمنع أي إنسان شهم عن التضامن مع الحق الفلسطيني، لدرجة أن بائعي الخضار رسموا لوحة للعلم الفلسطيني من الخضار، فأضافت للأعمال الفنية لوحة مفاهيمية واقعية.
أمّا في عالم “النت”، فالملفت أن التضامن الشعبي على امتداد الكرة الأرضية كان لوحة طوفانية افتراضية أيضاً، كشفت ازدواجية الديمقراطية المظلمة لدى القائمين على وسائل التواصل الإلكترونية ودفعتهم لارتكاب مجازر من قمع الصفحات وإغلاقها وإقفالها بأية ذريعة شاء لها إرهابها التكنولوجي.