أين اختفى تاجر القضية؟
علي اليوسف
كشفت الحرب على غزة حقيقة التحالفات كلياً أو جزئياً بعد أن استثمر الجميع في الانقسام الفلسطيني، وتاجروا بالقضية الفلسطينية حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم ليتربع رأس النظام التركي أردوغان في المرتبة الأولى حين اختفى فجأة عن بطولات غزة، وهو الذي كان على الدوام يزعل الكيان الإسرائيلي تارة، والولايات المتحدة تارة أخرى كرمى لعيون فلسطين، بل ويتشدّق في كل مرة أنه مستعدّ للتضحية بكل شيء نصرة للقضية الفلسطينية.
ها هي غزة اليوم على المقصلة تحتاج أردوغان الذي استخدمها وسيلة لترويج خطاباته ومشاريعه منذ يوم مغادرته “دافوس” غاضباً بعد مشادة كلامية مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز عام 2009 على خلفية أحداث غزة، إلى “مرمرة” 29 أيار 2010 موعد انطلاق سفن أسطول الحرية إلى القطاع لفكّ الحصار عنه.
لكن يبدو أن من توعّد بالصلاة في الجامع الأموي، وصاحب خطاب “المآذن رماحنا والقباب خوذنا” توارى عن الأنظار في لحظة الحقيقة، فالأصيل دخل على خط الحرب، وبالتالي فإن الوكيل سيبقى على دكة الاحتياط حتى إشعار آخر يجري اتصالات هنا وهناك ليس لوقف الحرب، بل لجسّ المواقف ونقلها للمنصب الأعلى، ولاستثمارها شخصياً كما جرت العادة في كثير من المواقف التي لا تُعدّ ولا تحُصى.
ليس أردوغان وحده هو من تنحّى عن غزة، لكن لكونه زعيم الجماعات الإرهابية، أو كما يحب أن يطلق عليها “دينية وجهادية” بمختلف مسمياتها، والتي جنّدها واستخدمها ضد الدولة السورية في مشروع ما يُسمّى “إمارة إسلامية”، فهذا يضع إشارات استفهام حول هذا الهروب، إذ لم يسمع أحد تكبيرات جماعاته وأصواتهم، هل لأن كسر هيبة “إسرائيل” أفقده وأفقدهم التوازن وأصابهم بخيبة أمل، أم أنه بانتظار تعليمات جديدة للمرحلة الغامضة في سيناريوهات الحرب القادمة؟
في كلتا الحالتين، وأمام هذا الواقع الجديد فإن أردوغان الذي كان يدّعي نفسه أنه “الصوت العالي” للقضية الفلسطينية نزع عنه قناع “البطولة” وطوى صفحة التصريحات الإعلامية التي كان يتاجر بها، وها هو اليوم يرسل أطناناً من المساعدات لدعم “إسرائيل”، ويستخدم خطاباً يساوي بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وما ترتكبه من جرائم، وبين المقاومة التي تردّ وتتصدى لهذه الجرائم تحت مسمّى “لهجة محايدة”.
وحتى هذه اللهجة المحايدة هي ليست الحقيقة، فالزئبقية هي الأدق تعبيراً في المواقف التي تخدم المصالح الشخصية والاعتبارات الجيوسياسية، وخاصةً إذا ما أخذنا في الاعتبار لقاء أردوغان برئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر الماضي، ودعوة الأخير لزيارة أنقرة، ما يعني بالضرورة أن تحوّل موقف أردوغان وردود أفعال نظامه الباردة إزاء جرائم “إسرائيل” له ثمن سيحصل عليه على حساب دماء الأطفال والأبرياء في غزة.
لكن أكثر ما يحزن هنا أن البعض ممن وضعوا يدهم بيد أردوغان لم يقرؤوا المشهد جيداً، بل انساقوا وراء تاجر القضية الفلسطينية الذي باعهم منذ أول صاروخ سقط على غزة، ولم يكتشفوا أنه لا يمكن لأردوغان مهما بالغ في استعراض عضلاته ومهما حاول اللعب على الحبال أن يخفي ما يجمعه من علاقات “أخوية” متينة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، فهل استفاق من أضاع البوصلة؟!