الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

عدنية شبلي!

حسن حميد 

ليس من السهل أن يعي المرءُ أسبابَ كلّ هذا التناقض الموجع والأليم الذي تتصف به الشخصية الغربية، ومنذ أزمنة بعيدة، فهي تضحك قهقهة في المأتم، وتبكي قهراً وقت الفرح، وهي تصف الصّباح بالمساء، والمساء بالصّباح، مثلما تنحاز بافتخار وجذل للوحشية والدموية والنازية، وتصاب بالخرس والانطفاء أمام اغتصاب النساء، وبقر بطون الحوامل، وقطع رؤوس الأطفال، وتدمير البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وتتجاهل الحقّ، بينما تحدّق ثناءً بما تفعله أيدي الباطل من شرور وموبقات!

ولأنّ ما يؤيد كلامي، ونحن نتابع ما يحدث في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، كثيرٌ تطفح به الأخبار والكتب والأحداث والحادثات، فإنني هنا، وفي هذا الحيّز الظليل الأليف، سأقف عند تناقض مذهل ومخيف عمره أيام، ومكانه معرض فرانكفورت للكتاب المقام حالياً، ونصه أنّ إدارة معرض الكتاب في فرانكفورت أوقفت يوماً من أيام المعرض (20 تشرين الأول 2023) من أجل تكريم الروائية الفلسطينية عدنية شبلي، صاحبة رواية (تفصيل ثانوي) التي كتبتها باللغة العربية، ونشرتها في دار نشر عربية (الآداب 2017)، وتمّت ترجمتها إلى لغات عالمية عدة، منها الانكليزية والفرنسية، والألمانية بالطبع، وقد حازت هذه الرواية على جائزة الجمعية الأدبية الألمانية (ليتبروم) بعد منافسة مع روايات أخرى تقدّمت للجائزة، وقد قالت إدارة المعرض إنّ احتفالية كبيرة ستصاحب الإعلان عن الجائزة  في معرض فرانكفورت، وتسليمها للكاتبة عدنية شبلي، وأنّ قراءات نقدية ستواكب الاحتفالية، وأنّ الجمهور الذي سيحضر الاحتفالية سيطرح الأسئلة على الروائية عدنية شبلي، وأنّ تغطية إعلامية وافية من قبل وسائل الإعلام ستشمل هذا التكريم، وأنّ حديثاً متعدّد الجوانب سيكون حاضراً عن الرواية الفلسطينية والشؤون التي خاضت فيها، سواء أكانت تاريخية أو اجتماعية أو سياسية، لكن كلّ هذا تبخّر فجأة وطار في الهواء، لأنّ إدارة معرض فرانكفورت أعلنت عن إلغاء الاحتفالية كلّها، ومحت تكريم عدنية شبلي لأنّ الوقت غير مناسب، وأنّ التكريم سيؤجل لموعد يُعلن عنه فيما بعد، أيّ بعد انتهاء فعاليات معرض فرانكفورت، والأدهى، وهنا يتجلى التناقض، أن إدارة المعرض قالت إنها ستتيح المجال للأصوات الإسرائيلية للحديث عما يجري من أحداث في قطاع غزة (وليس عن حرب همجية تشنّها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية) كبديل عن احتفالية تكريم عدنية شبلي.

والحقّ، أنّ المرء ما عاد يتوقع أيّ شيء له علاقة بثلاثية الإغريق القديمة (الحقّ، والخير، والجمال) يطلّ من بلاد الغرب لأنّ الذهنية الغربية، وبسبب تاريخها الطويل المجانب للحقّ، غير قادرة على المشي في دروب الحقّ والخير والجمال التي تناصر القيم الإنسانية التي أيّدتها القوانين التي وضعتها البشرية وسعت إليها.

إذاً، مرّة أخرى، يطلّ التوحّش وتتجلى العنصرية في معرض فرانكفورت الألماني، فيسكتان الصوت الفلسطيني، كي لا تتبدّى فضائح العدو الإسرائيلي، ذلك لأنّ رواية عدنية شبلي (تفصيل ثانوي) تقوم على الكشف عن جريمة اغتصاب لفتاة فلسطينية، في منطقة النقب، من قبل جنود وضباط كتيبة إسرائيلية عام 1948، ومن بعد الفعل الشائن يقوم الضباط والجنود بقتلها، والقصة حقيقية، ومأخوذة عن خبر نشرته الصحف الإسرائيلية آنذاك للتباهي بقوة الجنود الإسرائيليين، وقدرتهم على (إبداع) لحظات الفرح، حين اغتصبوا الفتاة الفلسطينية تباعاً، وحين قتلوها أيضاً وهم يضحكون ويهزجون. الرواية قالت للجميع، ومن هذا الجميع الغربُ، وعبر سطر طويل: ها هم الذين يمثّلون الديمقراطية، والقيم الإنسانية، والحضارة، والتاريخ الجديد في البلاد الفلسطينية، كما يتشدّق بذلك إعلامكم الغربي، وأضافت سطراً طويلاً آخر راح يروي نازية هؤلاء الجنود، ويصف ممارساتهم الوحشية، ويقول لحماتهم وداعميهم: هؤلاء المستعمرون لا يعرفون كتاب الحرية والديمقراطية والحضارة، هؤلاء هم آخر شكل من أشكال بربرية الاستعمار الذي لا يجيد شيئاً سوى القتل، وإراقة الدماء، ومحو الحياة، وإخفاء الحقيقة.

الآن، وبالتواتر، تترادف الأخبار عن سبب إلغاء تكريم عدنية شبلي، مثلما تترادف طلبات المتطرفين بسحب الجائزة منها، وكلّها تقول: لا مصداقية للغرب الذي رضخ للضغوط الإسرائيلية، وإنّ إدارة معرض فرانكفورت للكتاب تريد إسماع صوت الإسرائيلي، وتجميل الصورة الإسرائيلية في ظلّ الجرائم والقباحات التي تُرتكب الآن ضد المدنيين في قطاع غزة والضفة الغربية، وأنّ الوقت ليس مناسباً لامتداح الأدب الفلسطيني، وتسليط الضوء عليه حتى لو كان ضوءاً ناحلاً. والمؤسف هو أنّ كلّ الآراء التي ثارت مستهجنةً قرار إدارة معرض فرانكفورت للكتاب، لم تؤثر أو تحدث شرخاً أو تلفت الانتباه إلى هذا التناقض البشع المقترف، والانتقال من ضفة الأدب وما فيها من جمال وبراعة إلى ضفة السياسة وما فيها من عنصرية فاقعة وشناعة لا حدود لها.

عدنية شبلي، يا ابنتنا العزيزة، اعلمي أن كلّ ما قامت به إدارة معرض فرانكفورت للكتاب من نكوص ليس مهمّاً، لأنه سلوك من يعاني من مرض نفسي قديم، واعلمي أن ما قمت أنت به هو الجمال، صحيح أنهم منعوك من أن تسمعي تصفيق الأكفّ لبراعتك الأدبية في معرضهم، ولكنهم، من المستحيل، أن يمنعوك من أن تسمعي هتاف قلوبنا وتصفيقها ثناءً وتقديراً لبراعتك الأدبية، واعلمي أيضاً أنّنا الآن نأخذك في عناق طويل غمراً بالذراعين،عناق أغلى من الظفر.. وأسمى!.

Hasanhamid55@yahoo.com