المقاومة في الرواية.. الرصاصة تقتل شخصاً لكن الكلمة تقتل أجيالاً
اختارت أكاديمية دار الثقافة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مؤخراً أن تعقد ندوتها “المقاومة والرواية” في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة بمشاركة د. عاطف البطرس، د. ماجدة حمود، أ. سعيد البرغوثي انتصاراً لملحمة طوفان الأقصى ولتكون تحية للشعب الفلسطيني الذي يقاتل ويواجه جرائم العدو الصهيوني البشعة التي تُرتكب اليوم بحقه.
وبيَّن مدير الندوة الكاتب وليد عبد الرحيم أن ما يخلق المقاومة عبر التاريخ هو الفكر والأدب عندما تتحوّل الفكرة إلى منهجية خاصة، وقد كانا دائماً من أسس صموده، في حين أجمع المشاركون في الندوة على أهمية الأدب في تجلي فكرة المقاومة بكل أشكالها، والتي هي في تعريفها ردّ فعل مناهض للوجود الاستعماري بطرق ووسائل مختلفة، كما أنها شكل من أشكال المقاومة السلمية والرفض المنظمة اللذين تقوم بها جماعات بشرية أو شعب من الشعوب.
كاتب الكفاح والفرح
وإيماناً منه بمقولة “الرصاصة تقتل شخصاً لكن الكلمة تقتل أجيالاً”، وخاصة إذا اتصفت بالأدبية والرقي الجمالي، اختار د. عاطف البطرس في مشاركته الحديث عن المقاومة في روايات حنا مينة الذي كان يصف نفسه بأنه كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، مشيراً إلى أن المقاومة بكل أشكالها كانت حاضرة في كلّ رواية من روايات مينة، متوقفاً عند روايته “الشراع والعاصفة” التي صدرت عام 1966 وهي الرواية الثانية له بعد “المصابيح الزرق”. ورأى البطرس أن مينة بدا فيها كاتباً آخر رغم أن روحه في الروايتين كانت واحدة، وكانت شخصيات روايته تقوم بفعل المقاومة، ولاسيما شخصية البطل الملقب بالطروسي والتي صاغها الكاتب بمهارة فائقة، وقد تجاوزت مقاومته حدود المكان والزمان ليوازي بطل همنغواي في روايته “الشيخ والبحر” من خلال شخصية الطروسي وروحه الكفاحية والمقاومة التي عاشها بأشكالها المختلفة في البر والبحر، ولم تخلُ حياته من لحظات بطولية خُتمت عندما أنقذ سفينة كادت أن تغرق في البحر، ومن ثم توظيف مركبه الجديد لنقل الأسلحة للثوار، مبيناً أن مينة أعاد إنتاج شخصية الطروسي بأشكال متعدّدة في رواياته اللاحقة كشخصية صالح خزوم في “حكاية بحار”، حيث قدّم للقارئ مثالاً إنسانياً وجمالياً من خلال ما قدّمه من منظومة قيم في هذه الرواية التي صاغ فيها مواصفات الريّس الذي لا يغادر مركبه قبل أن يغادر الجميع، وهو الذي كان يقاوم الاستعمار العثماني ومن ثم الفرنسي ليكمل ابنه سعيد طريقه في الكفاح الذي اختاره أيضاً بطله في رواية “الشمس في يوم غائم”. وأكد البطرس أنه لم يقرأ لمينة بطولة ورقية أهم وأعمق من بطولته في تجربته الحياتية التي كان فيها مكافحاً، فجسّد في كلّ ما كتبه منظومته الفكرية في المقاومة بأشكال مختلفة، وكانت الكتابة بالنسبة له أداة من أدوات المقاومة ليستمر بها مرتكزاً على إيمانه بأن المستقبل للمكافحين وضرورة التفاؤل لأن الإنسان اليائس برأيه يخسر قضيته.
الأديب المقاوم
وتناول الكاتب سعيد البرغوثي وهو صاحب دار كنعان للنشر في حديثه مسيرة غسان كنفاني الأديب المقاوم الذي في كلّ إبداعاته لم يغادر فلسطين إلا نادراً، وأبقى عينه مفتوحة على الواقع الفلسطيني منخرطاً فيه حتى العظم وبفنية عالية، حيث نجت كلّ إبداعاته من المباشرة التي تقتل الإبداع رغم ما يرى فيها البعض من ضرورة في خطاب يتوجّه بالأساس لبسطاء قاصرين عن فك رموز العملية الإبداعية. وبيّن البرغوثي أن كنفاني عبّر بأعماله القصصية الأولى كـ”أرض البرتقال الحزين” و”موت سرير رقم 12″ عن السكون والانتظار المرهون بالوهم والعجز الذي كان يعيشه الفلسطينيون منذ النكبة، إلا أنه سرعان ما غادر هذا الحزن ليتحوّل إلى التحريض يوم رأى أن الوهم والعجز ما زالا قائمين، فكتب روايته “رجال في الشمس” عام 1963 ليقرع جرس الإنذار محرّضاً: “لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟”، وفي العام 1966 عندما بدأت الحوارات حول ضرورة انبعاث الكيان الفلسطيني وثورة التحرير كتب روايته “ما تبقّى لكم”، حيث كانت كلّ الأشياء تدقّ وتنبض، لكن غسان كنفاني لم يكن مطمئناً كلّ الاطمئنان في رصده للحراك المبشر بالانبعاث والولادة التي تحققت في رواية “أم سعد” حين ولدت خيمة الفدائي في مواجهة خيمة المخيم.. تقول أم سعد: “خيمة عن خيمة بتفرق”، وحين كانت المقاومة الفلسطينية المعاصرة في ذروة نهوضها ولم تكن قد عرفت بعد أياً من الإجهاضات، بيّن البرغوثي أن كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا” التي كتبها عام 1969 أصبح مهموماً بالانتماء، فخلص إلى مقولة “الإنسان قضية” بعيداً عن أي انتماء آخر. ورأى البرغوثي أن المتابع لهذه الأعمال سيكتشف التلازم الصارم بين الرصد للواقع الفلسطيني المشخص ومتطلبات وشروط العملية الإبداعية بكل تجلياتها، وسيكتشف كذلك التوازن المدهش بين البنية الفنية المتجدّدة دائماً وأهداف تلك الأعمال المحملة بالرمز الذي تقتضيه العملية الفنية.
مقاومة توازي السلاح
وارتأت د. ماجدة حمود أستاذة النقد الحديث في جامعة دمشق أن تتناول شكلاً آخر من أشكال المقاومة حين اختارت الحديث عن المقاومة السلمية من خلال رواية “صمت البحر”، وهي رواية فرنسية كتبها الكاتب جان مارسيل برولير أثناء تماثله للشفاء إثر تعرّضه للإصابة في بداية الحرب “للإبقاء على عقله فاعلاً” وفق ما صرح به ونشرها فيما بعد سراً باسم مستعار هو “فيركور” في باريس إبان الاحتلال النازي عام 1942 وسرعان ما أصبحت رمزاً للمقاومة السلمية ضد الاحتلال الألماني والتي أنتجت أدباً وفكراً وفنوناً مختلفة حملت جميعها اسم أدب المقاومة. وأوضحت حمود أن “صمت البحر” واحدة من الروايات التي كانت نتاج هذا الأدب بامتياز وهي تقاوم الاحتلال النازي لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية لا بالرصاص، وإنما من خلال علاقة رجل عجوز وابنة أخيه بضابط من جيش الاحتلال اقتحم حياتهما وأقام في بيتهما لفترة، فيقدمه الكاتب بداية كداعٍ إلى السلام، وهو شاب مرهف الحسّ، هذّبته الموسيقا والشعر، ولا يدخل البيت إلا بعد أن يستأذنهما، وحين يلجأ إلى استمالة المسنّ وابنة أخيه لكسر صمتهما تارة بحديثه عن مقته الشديد للحرب، وتارة بالتعبير عن حبه لفرنسا وأمله الحقيقي في إنهاء الحرب لكنه يفشل في جرهما للكلام معه، ولكن بعد شهور وعودته من إجازته ببزّته العسكرية يطالبهما بنسيان كلّ ما قاله خلال زيارته، فكل آماله المبشّرة بالسلام والحب والألفة جاءت من روح شاعر: “السياسة ليست حلم شاعر”، وتنتهي الرواية حين ترد الفتاة -الصامتة طوال الرواية- بكلمة “وداعاً” التي تليق بمحتل.
وكانت د. حمود قد تساءلت في بداية حديثها قائلة: “هل يحقّ لي أن أتحدث عن المقاومة السلمية والقنابل والصواريخ تنهال على أهلنا في غزة؟”، لتجيب: “أرغب في أن نعيد النظر في الإبداع الروائي العربي.. ما زلنا مقصّرين في أدب المقاومة السلمية (أدب- إعلام) فهذا النوع من المقاومة يوازي السلاح”.
أمينة عباس