دراساتصحيفة البعث

طوفان الأقصى.. صدمة بدّدت أوهاماً عدّة

د. معن منيف سليمان

صدمت عملية طوفان الأقصى العالم، وبدّدت أوهاماً عدّة كان يراها الجميع حقائق ناصعة لا يمكن أن تكون على ما هي غير عليه بحكم طبيعة الحال.

فمن خلال ردّات الفعل الشعبية التي كانت في أوجها حين نزلت الشعوب العربية قاطبة إلى الشوارع، أكدت صحة المقولة الداعية إلى أن الطريق إلى تحرير فلسطين سيقود إلى الطريق لوحدة الأمة العربية، على عكس ما يتوهّم البعض، وهو ما يدركه الاستعمار الغربي وعملاؤه، ويقدّم الدعم اللازم لاستمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومن هنا دأبوا على عدم الوصول إلى إقامة دولة فلسطينية لأنهم يدركون أن قبلة العرب السابقة هي نفسها الحالية وستبقى كذلك دائماً وأبداً، وأن الشعوب العربية حاضنة أساسية للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

كما تؤكّد ردّات الفعل الشعبية أن كلّ مخططات الاحتلال للتطبيع مع الدول العربية باءت بالإخفاق وسط تزايد الكراهية في الأوساط الشعبية العربية، وأن الدول العربية المطبّعة مع الكيان الصهيوني التي كانت تعتقد أنها باتت بمأمن منها، تفاجأت اليوم أن التطبيع لم يقدّم لها شيئاً إلا الوهم، بل على عكس ذلك تماماً فالكيان سوف يضرب كل الاتفاقيات عرض الحائط لتنفيذ مخططاته، وأن المخطط الإسرائيلي لم يتغيّر، ويتمثّل بـ”إسرائيل” الكبرى من الفرات إلى النيل.

وفي ظلّ الوضع الراهن الذي تعيشه الساحة العربية وقبل أن يجرف الطوفان الجميع دون استثناء، باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى الوحدة والتضامن والارتقاء إلى برنامج قومي يعزّز العمل المقاوم الوحدوي ويواجه المخططات الخبيثة المبيّتة للمنطقة، وفي مقدمتها تصفية القضية الفلسطينية، والعمل الموحّد في استغلال الأزمات وخاصة هذه الملحمة البطولية وما يعيشه الاحتلال من أزمات داخلية والشرخ الذي دكّ عصبه، وتحويلها إلى فرصة ممكنة لإزالة الاحتلال وكنس آثاره من الوجود.

إن عملية طوفان الأقصى أعادت توجيه البوصلة وهدمت أوهاماً عدّة كانت تردّدها جوقة المنتفعين بالأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، فقد كان النقاد التاريخيون ونقاد الحركة الصهيونية يرون اختلافاً جوهرياً بين الإبادات التي جرت بحق السكان الأصليين في الأمريكيتين وأستراليا وجنوبي أفريقيا وبين ما يحدث في فلسطين، وكانوا يراهنون على أن الاحتلال لن يستطيع إبادة شعب في عصر الصورة والنقل المباشر، وأن الشعوب الغربية المغيّبة عن الواقع ستثور لوقف الجرائم أمام قادتها الذين يحكمون العالم، ولكن أثبتت هذه النظرية إخفاقها. فنحن أمام وحش استيطاني لا ينفكّ عن طلب المزيد، ولو تمّ التسليم جدلاً بأن الحل يكمن في حل الدولتين أو في دولة واحدة اسمها “إسرائيل”؛ فإن المحتل الحالي لا يختلف عن أي محتل آخر، بل هو أكثر إجراماً ووحشية وسيطلب مزيداً من الأرض كلما طال بقاؤه، على الرغم من أن ما بُني على باطل فهو باطل، فمن الغريب أن تطرح مسألة إقامة دولة للمحتل. وعلى الرغم من أن العالم يرى هذا كلّه عياناً ولم يكلفه المحتل عناء تخيل الفظاعة عبر القصص والكتب التي تروى عن هذه الإبادة، بل يرتكبها على مرأى ومسمع من الجميع ولم يفعل أي أحد -باستثناء المقاومة- شيئاً غير التنديد والخطابات المهلهلة التي تتبدى فيها ملامح الهزيمة النفسية والرضا بواقع الضعف.

لقد كشفت هذه العملية حقيقة المجتمع الدولي ووجهه البشع وفي مقدمته الدول الغربية: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا حتى إيطاليا، وسياسة لا تصلح أن نسميها ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، بل الانحياز السافر والوقح للكيان الصهيوني والإسراع إلى إعلان التأييد المطلق لما سمّوه “حق الاحتلال في الدفاع عن نفسه” وتبنيه سلسلة من العقوبات بحق الشعب الفلسطيني وقياداته، وأبعد من ذلك الإعلان عن إمدادات مالية وعسكرية كبيرة للتصدي لما اتفق على وصفه فيما بينهم “إرهاب المقاومة”، دون أدنى مراعاة أو عقلانية، أن من يجري التصدي “لإرهابه” ما هو إلا مجرد حركة مقاومة وعدد من الرجال، هم بحقيقة الأمر أبطال نذروا أنفسهم في سبيل استرجاع الحقوق المسلوبة ونصرة المظلومين ومقاومة الظالم، متسلحين بالإيمان والإرادة الصلبة والعزيمة القوية أولاً، ومن ثم إمكانيات محدودة متواضعة قياساً بالإمكانيات العظمى التي يمتلكها الاحتلال وأعوانه، ما يدعو إلى الانحناء أمام إصرار هذه المقاومة الباسلة.

وأعاد طوفان الأقصى توجيه البوصلة وتصحيح المسار، فمن كان يتوهم ويراهن على المجتمع الدولي في حمايته من العدوان، فلا الأمم المتحدة ولا المجتمع الدولي يحميان أحداً بحق، وكان الرأي العربي سابقاً يظنّ بأن المجتمع الدولي لا يحمي العربي فقط، لكن الحرب الروسية الأوكرانية شاهد ناطق عن واقع الحال الذي يعيشه العالم المليء بالوحشية والظلم تطبيقاً لمبدأ الغاب “البقاء للأقوى”.

وأكدت هذه العملية، أن ما تسمّى “إسرائيل” المدجّجة بأحدث الأسلحة الفتاكة وجيشها الذي لا يُقهر، والمحصّنة بالقنابل النووية والجدران الإسمنتية العالية، هي أوهن من خيط العنكبوت، وأن انهيارها رهينة بفعل مخطّط له بإحكام، فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في تضليل العدو وخداعه وإعطائه انطباعاً أن المقاومة مشغولة بنفسها في تحسين أوضاعها المعيشية والاقتصادية، في الوقت الذي كانت تعدّ فيه العدّة للانقضاض على العدو، ومباغتته في حين كان فيه قد اتخذ جانب الأمان من قطاع غزة. إن عنصر المباغتة هذا أكد بما لا يدعو إلى الشك على إخفاق ذريع للأذرع الأمنية للاحتلال وسقط من جديد وهم نظرية الجيش الذي لا يقهر، وأبعد من ذلك أدخل العدو في صدمة بحاجة إلى وقت طويل -ربما لم يعد يملكه- للاستفاقة منها وإزالة تبعاتها.

ولأول مرّة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يتحوّل المدافع إلى مهاجم يقود معركته في أرض يسيطر عليها العدو، لا يمتصّ الصدمات والضربات كما كان سابقاً، بل يقضّ مضاجعه في قلب مواقعه العسكرية الحصينة ولا يكتفي بموقف المدافع والمتمترس في أرضه كما سابقاتها من الحروب العدوانية.