التغريبة الفلسطينية الثانية
هيفاء علي
منذ عملية المقاومة الفلسطينية البطولية في 7 تشرين الأول، نزح 1،4 مليون فلسطيني من غزة بعد تلقيهم تهديدات من السلطات الإسرائيلية بالتهجير نحو الجنوب، وهذا الرقم يمثل 60% من عدد سكان غزة.
ففي زمن الحرب، يضطر المدنيون إلى الفرار من المنطقة حتى تصبح العودة آمنة، لكن العديد من الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم يخشون من أن أولئك الذين يحاولون الهروب من غزة لن يتمكنوا أبداً من العودة إلى ديارهم، وهم يخشون أن يصبح النزوح منفى دائماً، وهذا ما يفسّر رفض الجميع أي خطة تنطوي على التهجير الجماعي للفلسطينيين، مثلما ترفض مصر والأردن، استقبال سكان غزة جزئياً بسبب المخاوف الأمنية والاقتصادية.
هناك ثلاثة دوافع رئيسية لهذا الخوف، أوّلها متأصل في الذاكرة الفلسطينية التي لن تنسى ذلك التاريخ عام 1948، عندما طرد الكيان الإسرائيلي مئات الآلاف من الفلسطينيين واستمرت عمليات التهجير المتقطعة منذ ذلك الحين، حيث سعى الكيان المحتل إلى الحفاظ على أغلبية يهودية في الدولة من خلال دفع الفلسطينيين خارجها. أما الدافع الثاني فهو ما كان أعضاء سلطة الكيان المحتل يردّدونه بشكل متزايد في الأشهر التي سبقت هجوم المقاومة، إذ كان خطابهم المؤيّد للطرد صارخاً للغاية لدرجة أن الخبراء حذروا من تزايد مؤشرات حدوث تهجير جماعي آخر. أما الدافع الثالث فهو ما تقوله مؤسّسة الدفاع الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول: الدعوة إلى جعل غزة بمساحة أصغر بشكل دائم بحيث يكون عيش الفلسطينيين فيها مستحيلاً، ناهيك عن بناء دولة في يوم من الأيام، وبالتالي فإن فهم السياق التاريخي هو المفتاح لفهم أين ستذهب هذه الحرب غداً، ولماذا لدى الفلسطينيين كلّ الأسباب للخوف من تهجير سكان غزة إلى الأبد.
معظم الفلسطينيين البالغ عددهم 2.1 مليون في غزة ليسوا في الأصل من غزة، فهم أبناء أو أحفاد أكثر من 700 ألف لاجئ طردوا أو أجبروا على الفرار من منازلهم فيما يعرف الآن بـ”إسرائيل” خلال حرب سنة 1948 التي أدّت إلى إنشاء الكيان. إن عملية الطرد هذه التي دامت 75 سنة ليست ذكرى تلاشت منذ زمن طويل، بل ألم عميق ومتجذّر ومستمر.
ولا تزال العائلات الفلسطينية تحتفظ بمفاتيح المنازل التي تركوها في سنة 1948، وقد أخذوا المفاتيح معهم لأن قوات الاحتلال الإسرائيلي أخبرتهم أنهم سيتمكّنون من العودة إلى ديارهم بعد بضعة أسابيع، وهذا لم يحدث قط، وبدلاً من ذلك، أصبحوا لاجئين دائمين. اليوم، يمتدّ الشتات الفلسطيني من الأردن ولبنان وسورية إلى دول الخليج العربية والغرب.
والكيان المحتل يرفض الاعتراف “بحق العودة” الذي يناضل الفلسطينيون من أجل تحقيقه، خوفاً من أن يشكل السماح لملايين اللاجئين بدخولها تهديداً ديموغرافياً، مما يحوّل الأغلبية اليهودية في البلاد إلى أقلية، ويقوّض مكانة البلاد كدولة يهودية. واليوم يتكرّر المشهد نفسه لما حدث سنة 1948، فرّ بعض الفلسطينيين في شمال غزة في الأسابيع الأخيرة من منازلهم ومفاتيحهم في أيديهم.
قبل الحرب الراهنة على قطاع غزة، كانت سنة 2023 بالفعل هي السنة الأكثر دموية بالنسبة للفلسطينيين منذ سنة 2005، إذ كان عنف المستوطنين في ارتفاع، وأصبح خطاب وأفعال كبار الضباط الإسرائيليين فيما يتعلّق بالحقوق الفلسطينية مثيراً للقلق لدرجة أن الخبراء حذّروا من أن نكبة أخرى قد تكون وشيكة.
في هذا السياق، كتب أحد الصحفيين الأمريكيين في نيسان من هذا العام، مقالاً بعنوان “هل تستطيع إسرائيل تنفيذ نكبة ثانية”؟ أشار فيه إلى أنه مع توجّه الحكومة الإسرائيلية بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نحو اليمين المتطرف، أصبحت فكرة طرد الفلسطينيين سائدة بشكل متزايد في المجتمع الإسرائيلي. وفي استطلاع للرأي أجري سنة 2017، جاء فيه أن 40% من اليهود الإسرائيليين يعتقدون أنه يجب طرد أو نقل العرب الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية.
وعندما يعي الفلسطينيون أن هدف الكيان الإسرائيلي على المدى الطويل ليس إقامة دولة فلسطينية، بل طرد الفلسطينيين، فإنهم ليسوا مصابين بالهلوسة، في حين أن وتيرة طرد الفلسطينيين تذبذبت خلال 75 عاماً، إلا أن هناك سبباً للقلق من أن التطرف من الممكن أن يؤدي مع استمرار حكومة “إسرائيل” الحالية، إلى جانب تصاعد العنف في الضفة الغربية، إلى تحويل التدفق الحالي إلى طوفان، ما ينذر بحدوث نكبة أخرى.
فقد وقعت إحدى أسوأ الهجمات في شهر شباط الماضي، عندما اجتاح نحو 400 مستوطن بلدة حوارة والقرى المجاورة لها في شمال الضفة الغربية. والأسوأ من ذلك، أن هذا النوع من عنف المستوطنين ليس منفصلاً عن سلطات الكيان المحتل، حيث حظيت مذبحة حوارة بدعم مفتوح من بعض الوزراء!.
وفي ظلّ ارتفاع حدة التصعيد في الحرب الراهنة على قطاع غزة والضفة الغربية، فإن المحلّلين يتحدثون عن أن أحد الاحتمالات هو أن يأخذ الكيان المحتل جزءاً من أراضي غزة لتوسيع “المنطقة المحظورة” أو “المنطقة العازلة” التي كانت موجودة منذ عدة سنوات داخل غزة على طول السياج المحيط الذي يفصل بين القطاع والكيان، وهذا ما يثير قلق ومخاوف الفلسطينيين.