من دير ياسين إلى مشفى “المعمداني”
عناية ناصر
من خلال التواطؤ في تدمير غزة، وبمساعدة وسائل الإعلام، بدأ الزعماء الغربيون العمل على مدار الساعة لتكرار الأكاذيب بإخلاص ومحاولة تضخيم ضباب الحرب. وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن، أول رئيس غربي يكرّر الكذبة الإسرائيلية البشعة بشأن أربعين طفلاً مقطوعي الرأس، كما أيّد الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن صاروخاً أطلقته المقاومة الفلسطينية أدّى إلى مقتل 500 شخص.
إن قواعد اللعبة مألوفة للغاية، حيث يتمّ في البداية الإنكار التام، ومن ثم إلقاء اللوم على المقاومة. ومع ظهور الحقيقة، يصرخ الإسرائيليون أنه “خطأ”، وأنه “مجرد حادث”. وعندما يفشل ذلك في تهدئة الغضب الشعبي ويطالب الناس بالمحاسبة، تصرخ “إسرائيل” بمعاداة السامية. وعندما تفشل كلّ الطرق الأخرى، يتمّ التنديد بالمنتقدين باعتبارهم نازيين وفاشيين في روايتهم الملتوية. وقد تمّ رسم هذا السيناريو نفسه من قبل، حيث يتمّ نشر الأكاذيب نفسها التي استُخدمت للتعتيم على مقتل شيرين أبو عاقلة مرة أخرى.
لقد دأبت “إسرائيل” على تبرير قصف المستشفيات والمدارس علناً قبل شنّ حملتها العسكرية، حيث كانت تبرّر جرائم الحرب مسبقاً، حيث أعلنت دون خوف من المساءلة أنها ستفرض عقاباً جماعياً من خلال حرمان سكان غزة من الكهرباء والماء والغذاء.
إن إنكار “إسرائيل” ليس ذا مصداقية، لأن كيان الاحتلال له تاريخ طويل في ارتكاب الفظائع والمجازر ضد الفلسطينيين. ولعقود من الزمن، كان يتمّ قمع الحقائق الوحشية للمجازر، كما ودُفنت تفاصيلها. لكن حقيقة تلك القصص ظهرت ببطء إلى النور: قصص المجازر والتعذيب والنفي للمدنيين العزل، وقد تمّ الكشف عن التفاصيل الوحشية لعمليات القتل هذه مع مرور الوقت. ولحسن الحظ، في عالم وسائل التواصل الاجتماعي، يصعب إخفاء الأكاذيب والدعاية بينما لا تزال “إسرائيل” تحاول يائسة السيطرة على هذا السرد، فإن الأصوات الفلسطينية تعلو الآن بشكل أكبر حيث تكشف قصصهم وصورهم الأكاذيب الإسرائيلية في وقتها.
تظهر نظرة خاطفة على التاريخ كيف كان القتل الجماعي للفلسطينيين بمثابة إستراتيجية استخدمتها الجماعات العسكرية الصهيونية لتطهير الفلسطينيين عرقياً. إن المذابح الجماعية والتطهير العرقي، هي تكرار لتكتيكات الماضي المظلمة، وكانت المذبحة التي وقعت في قرية دير ياسين الفلسطينية في عام 1948 من أقدم وأشهر تلك المجازر. ويقال إن ما يصل إلى 250 شخصاً، من بينهم رجال ونساء وأطفال وشيوخ، استشهدوا في تلك المجزرة. وكان الهدف من هذه الفظائع هو زرع الرعب والخوف لإجبار الفلسطينيين على الفرار، حيث فرّ نحو 750 ألف فلسطيني، أي ثلاثة أرباع السكان، بسبب الحملة الإرهابية التي شنّها الإسرائيليون. وبعد شهر من ارتكاب مذبحة دير ياسين، قامت قوات الكيان الإسرائيلي بارتكاب مجزرة في قرية الطنطورة الساحلية راح ضحيتها ما يصل إلى 200 فلسطيني.
لقد كان ذلك جزءاً من حملة تطهير عرقي وحشية -خطة داليت- للاستيلاء على الأراضي لإقامة دولة يهودية مستقبلية. كانت الطنطورة واحدة من 64 قرية فلسطينية تقع على جانبي الطريق بين تل أبيب وحيفا، لقد تمّ محو جميع المجتمعات الساحلية التي كانت مزدهرة من الخريطة، باستثناء اثنتين، وتمّ طرد السكان بشكل جماعي، وانضموا إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين تمّ تطهيرهم عرقياً من أراضي أجدادهم في عام 1948.
لقد أدّت حملة “إسرائيل” التي لا تنتهي على ما يبدو لاقتلاع الفلسطينيين من منازلهم بقوة السلاح والتهديد بالذبح الوشيك إلى مجزرة أخرى في 29 تشرين الأول 1956 في قرية كفر قاسم، على الجانب الإسرائيلي من خط الهدنة “الأخضر” لعام 1949 . وتنقل الجنود من بيت إلى بيت، وأطلقوا النار على المنازل. تمّ ارتكاب مجزرة راح ضحيتها تسعة وأربعين من السكان في أقل من ساعة، حيث قتل رجال ونساء وأطفال بالرصاص بدم بارد، لقد كان الهدف من وراء كل هذا العنف هو إثارة الرعب، ودفع الفلسطينيين إلى الفرار للنجاة بحياتهم.
ووفقاً للمؤرّخين الفلسطينيين، فإن مجزرة كفر قاسم جسّدت المخطط الإسرائيلي النموذجي المتمثل في ترويع الفلسطينيين ودفعهم إلى الفرار. يسرد الدكتور سلمان أبو ستة في كتابه “أطلس فلسطين (1917-1966)” ما لا يقلّ عن 232 مكاناً ارتكب فيها الصهاينة الفظائع والمذابح والدمار والنهب بين عامي 1947 و1956. وقد تمّ تنفيذ كل واحدة من العمليات العسكرية الثلاثين تقريباً مصحوبة بمذبحة أو مذبحتين للمدنيين.
لقد ولدت عقود من الاحتلال الإسرائيلي فظائع لا حصر لها ضد الفلسطينيين، بما في ذلك فظائع خارج حدودهم، ففي عام 1982، أصبح مخيما صبرا وشاتيلا للاجئين في لبنان ساحة للقتل الوحشي، وراح ضحية تلك المجزرة أكثر من 3000 مدني فلسطيني. وقد سبق التشويه والتعذيب عمليات الإعدام التي لا نهاية لها حين رأى الآباء أطفالهم يموتون قبل أن يواجهوا المصير نفسه.
أنكرت “إسرائيل” تورّطها المباشر، لكن بصماتها كانت واضحة في كلّ مكان، حيث قاموا بإضاءة المعسكرات ليلاً ومنعوا الضحايا اليائسين من الفرار، لكن قرارات الأمم المتحدة أعلنت أن “إسرائيل” متواطئة في أعمال الإبادة الجماعية. وفي ذلك الوقت، تبيّن أن وزير الدفاع آرييل شارون مسؤول شخصياً عن التسبّب في حمام الدم، ولم يواجه أي عواقب حقيقية. لقد كانت تلك واحدة من حلقات لا حصر لها من احتضان الزعماء الإسرائيليين للعنف ضد الفلسطينيين مع الإفلات من العقاب.
ويمتد العنف الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين إلى ما هو أبعد من المذابح. لقد ذهب الآلاف من الضحايا على مدى عقود من الزمن للحفاظ على الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني. إن الهجمات السابقة على غزة تحمل الآن أسماء مرادفة للموت، فقد خلفت عملية “الرصاص المصبوب” في الفترة 2008-2009، 1400 شهيد فلسطيني. وأدّت عملية “الجرف الصامد” في عام 2014 إلى مقتل 2251 آخرين. وجاءت هذه الهجمات في أعقاب عمليات أخرى لا تُعدّ ولا تُحصى، خلفت كل منها مئات الضحايا وآلاف الجرحى، ولم يتوقف الهجوم، فخلال مسيرة العودة الكبرى عام 2019، أطلق القناصة الإسرائيليون النار على 267 متظاهراً أعزل، وأصيب أكثر من 30 ألفاً آخرين بجروح خطيرة، ولم يسلم الأطفال والمسعفون.
وكما كانت الحال في الماضي، فإن الحقيقة لن تُدفن تحت هذا السيل من الخداع، حيث يرى الناس في جميع أنحاء العالم شبكة الأكاذيب، ويدركون أن وحشية الكيان أصبحت مكشوفة، كما أن قصص من تعرّضوا للقصف أثناء طلبهم العلاج في مسشفى “الأهلي العربي” لا يمكن أن تُمحى.
قد تتضاعف أساطير “إسرائيل” اليائسة، لكن الواقع الملطخ بالدماء لا يزال قائماً، كما أن هذه الدعاية لن تخفي جرائم الحرب، ولن تحمي “إسرائيل” من المساءلة.