دراساتصحيفة البعث

أسرار خطة تغيير خريطة فلسطين وتهجير سكانها

ريا خوري

تقدّم رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخريطة عرضها على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الــ78 في شهر أيلول الماضي، تضمّنت جملة قضايا حول آثار وآفاق التطبيع والسلام مع العديد من الدول العربية بهدف تغيير الشرق الأوسط. شملت الخريطة مناطق مكسية باللون الأخضر الداكن للدول التي تخوض مفاوضات لإبرام اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني والدول الموقعة على تلك الاتفاقيات، الملفت أن الخريطة لم تشمل أي ذكر لوجود دولة فلسطينية على الإطلاق، حيث طغى اللون الأزرق، الذي يحمل كلمة “إسرائيل” على خريطة الضفة الغربية المحتلة كاملةً، بما فيها قطاع غزة.

الجدير بالذكر أنّ العديد من وسائل إعلام الكيان الصهيوني اعتبرت ما جاء في خطابه محض كذب، وأنّ نتنياهو قد كذب كثيراً في السابق، وأكبر كذبة يقدمها أمام العالم أجمع هي الكذبة بشأن الخريطة التي عرضها للكيان الصهيوني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كونه “لا مكان فيها لحلّ الدولتين”، لتثير الكثير من التساؤلات بشأن الجانب الذي يريد أن يصنع معه السلام.

نتنياهو لم يقدّم ما يمكن أن نطلق عليه تخيلات عندما قال إنّ الكيان الصهيوني سيغيّر خريطة الشرق الأوسط، ولم يكن ما قدّمه مجرد تصرف انفعالي أو عاطفي وليد لحظته، وهو ما دعا المختصين الاستراتيجيين بالشؤون العالمية للبحث عن جذور تلك الكلمات وذلك الأسلوب في الطرح، فتوقفوا أمام اليوم الذي ألقى فيه خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1996، وهو يعرض خريطة جديدة للشرق الأوسط، يتمدّد فيها حدود الكيان -حسب تعبيره- من النهر إلى البحر، مبتلعاً الضفة الغربية وقطاع غزة بالكامل، وبلا أي وجود للفلسطينيين على الإطلاق. وحين تفجرت الأزمة الأخيرة الساخنة، وبدأ الاجتياح الدموي التدميري لقطاع غزة تدميراً ممنهجاً وشاملاً، بدأت تظهر ملامح خطته الاستعمارية الجديدة.

فقد تحدث نتنياهو بعد يوم 7 تشرين الأول مرتين، إحداهما عند المستوطنات الحدودية ومسؤوليها، بقوله إن ردّ الكيان على الهجوم سوف يغيّر خريطة الشرق الأوسط من جديد، ثم عاد ليكرّر العبارات نفسها وتلك الكلمات الهادفة في خطاب موجّه إلى الجمهور داخل الكيان الصهيوني قائلاً: إنَّ ما سنفعله مع الفلسطينيين في الأيام القادمة سوف ينعكس على أجيال الكيان القادمة.

لعلّ أكثر الخبراء الاستراتيجيين تعمقاً في نهج وتفكير نتنياهو هو المفكر الأمريكي ديفيد هيرست الذي قدّم دراسات كثيرة: (إسرائيل وخرافة الدفاع عن النفس)- (انتفاضة لجيلٍ جديد) تحدث فيها مطولاً عن ظهور لا بدّ منه لجيل جديد من الشباب الفلسطيني، يصنع قراراته بنفسه.

وكان رئيس الوزراء الصهيوني السابق شمعون بيريس قد سبقه في طرح الفكرة في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، لكن بصورة مختلفة بدأها بـــ(السلام الاقتصادي) وهو ما دعا نتنياهو في الاجتماع السنوي لمنظمة (إيباك) الصهيونية في العاصمة الأمريكية واشنطن لأن يُعلن رفضه لفكرة شمعون بيريس. وقال: “لا يوجد شرق أوسط جديد، الشرق الأوسط هو الشرق الأوسط نفسه الذي نعرفه جميعاً”، وكان يقصد بذلك تنفيذ فكرته الهادفة إلى تفريغ الضفة الغربية وقطاع غزة من سكانهما، ودفعهم قسرياً للهجرة نحو الأردن وسيناء.

لقد تساءل عدد كبير من المحللين السياسيين والاستراتيجيين، ومعهم ديفيد هيرست، حول المخطط الأكبر الذي اشتغل عليه الصهاينة ويدور النقاش حوله في أيامنا هذه، وما هي النتائج التي سيجّرها من خلفه؟ وما هي المخاطر التي ستؤثر على المنطقة برمتها؟.

لقد أدرك السياسيون والباحثون الاستراتيجيون أن هناك تحضيراً لأكبر عملية تطهير عرقي من خلال القيام بعمليات إبادة جماعية تقوم بها القوات العسكرية الصهيونية بدعم وإسناد عسكري وتقني ولوجستي واستخباراتي وسياسي أمريكي أوروبي، وعلى رأسهم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا.. وغيرها. فقد أشار ديفيد هيرست لما أعلنه الكولونيل الصهيوني ريتشارد هيشت أمام الصحفيين أنه ينصح أهالي قطاع غزة بعبور منفذ رفح إلى سيناء رغماً عنهم نحو جمهورية مصر العربية، في أخطر عملية تطهير عرقي في التاريخ الحديث والمعاصر، ولو كان ذلك قد حدث، كما يتوهمون، لكانت الحلقة التالية هي دفع الشعب العربي الفلسطيني في الضفة الغربية للهجرة القسرية إلى الأردن.

من هنا كان الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس الأمريكي جو بايدن للكيان الصهيوني لتدمير قطاع غزة على رؤوس ساكنيها، فجاء تدمير المنازل والكنائس والمدارس والمستشفيات وترويع الناس الآمنين ودفعهم قسراً للتوجه إلى جنوب غزة ليتمّ قصفهم في وضح النهار في أخطر عملية إبادة بشرية يشهدها العالم.

لكن المفكر الأمريكي ديفيد هيرست يرى بعد أن شاهد ما شاهد العالم من جرائم وحشية اللا إنسانية بحق شعب بأكمله أنه يمكن للولايات المتحدة ألا تدفع الكيان للوقوع في مستنقع لن ينجو منه، وخاصة في مجال المعركة البرية، لأنها ستكون لها نتائج مدمرة.

لم يتوقف المحللون عن القول إنّ موقف الفلسطينيين من تلك الخطط وتلك الخرائط كان صارماً، وخاصة لجهة الدفاع عن المسجد الأقصى الذي يمثل رمزاً للهوية الوطنية الفلسطينية، فقد أكّد هؤلاء المحللين غير مرة على أن ينظر الصهاينة لأنفسهم في المرآة، ويفكروا في قيمة التصالح وفق مبدأ المساواة مع شعب يعيش في أرضه ومتجذّر فيها منذ خمسة آلاف عام ولا يمكن للاثنين، الفلسطينيين والصهاينة، أن يعيشوا معاً على أرض يحاول الصهاينة سلبها وسرقتها في وضح النهار.

على ضوء ذلك، فإن مكونات خطة وخرائط نتنياهو لن تحقق للكيان ما يطمح إليه، فالشعب العربي الفلسطيني، مثلهم مثل أي شعب أرضه محتلّة، لن يغادروا أرضهم مهما كان، ولو حتى تحت القصف اليومي الوحشي والتدميري البشع بالقنابل والصواريخ والفوسفور الأبيض وقنابل النابالم المحرمة دولياً. كما أن سيناء مغلقة في وجه أي تجاوز للحدود الوطنية لجمهورية مصر العربية، وإن ما ينجم عما يدور في عقل حكومة الكيان الصهيوني الغاصب لن يؤدي إلا إلى إشعال صدام قد يمتد إلى مساحة أبعد من دائرته التي يتصوّرون أنهم فقط هم الذين يتحركون فيها!.