السينما بالألوان
فيصل خرتش
كنا أنا وأمي نذهب إلى السينما، كنت في الخامسة من عمري، وهي كانت في الثانية والعشرين، كانت تتأبَطني، وتأخذني إلى فيلم جديد، وغالباً ما يكون لعبد الوهاب أو أم كلثوم أو فريد الأطرش، كان ذلك يتمّ كلَ أسبوع أو كلَ خمسة عشر يوماً، أو كلما ذهبنا إلى حمام السوق، كنت لا أعرف أبطال الفيلم من يكونون، ولا عن أيَ شيء يتحدَث الفيلم، أجلس صامتاً ومستمتعاً وهادئاً وكأنني في حضرة المريد.
وعندما نشطت في العمر قليلاً وصرت أعرف الطريق وحدي، بدأت أجمع النقود، وكلما أصبح لديّ ثمن بطاقة، أضيف إليها ثمن لفة الفلافل، وأحياناً كوب لبن من عند (فلافل برج لبنان) وأتوجّه بعد ذلك إلى إحدى دور السينما، أقطع تذكرة وأدخل إلى السينما، أجلس في مكاني وأستمتع بحضوري، ولا شيء يضاهي هذه المتعة التي أحصل عليها، ولم تعد الأفلام القديمة تستهويني مثل فيلم (الوردة البيضاء) بطولة محمد عبد الوهاب، بل أصبحت الأفلام الجديدة هي التي تعجبني، والتي كان لها حضور لافت في سينما حلب وأوغاريت والحمراء ورمسيس.
كنتُ أرى طلاب المدارس وطالباتها يتجمَعون كلّ يوم اثنين للدخول إلى السينما، وغالباً ما يكون ذلك صباحاً، إذ يحتشدون في اللباس الرسمي للفتوة، وغالباً ما يكونون متواعدين على دخول الفيلم، فتجدهم يحجزون بجانب بعضهم، وخاصة إذا كان الفيلم جديداً وذا موضوع، وكنت أتسلّل بينهم لأدخل الفيلم وأستمتع بالمناظر.
كنت أبحث عن كيف أبحث عن المال والطرق التي تؤدي إليه منذ الصباح الباكر، فيمكن أن أقوم بفعل المستحيل كي أحصل على ثمن بطاقة السينما، ولفة الفلافل، وبعد ذلك تهون الأمور، وعندما كنت في المدرسة كنت أهرب منذ الصباح متعللاً بالمرض، إذا سئلت عن سبب غيابي يوم البارحة، فأجيب: بمرض إحدى أخواتي، لأن الفتيات يجعلن الموضوع أكثر صدقاً، فيصدقني الأستاذ ويغفر لي.
صارت السينما هي كلُ حياتي، وكنت كلَ ما أجمعه من نقود يذهب إلى السينما، وكنت أربي الأرانب في البداية، فقد صنعت لهنَ ما يشبه القن ينمن ويتوالدن فيه، وكنت أترك الأم الولود وآخذ من صار عمرها سنة أو أقل بقليل، أضعها في كيس، وأنطلق بها إلى سوق الجمعة أعرضها للبيع، كان الفتيان الصغار يعجبون بها، فتشتري لهم أمهاتهم الأرانب الصغيرة، يضعونها فوق يدهم اليسرى ويمسحون باليد اليمنى على وبرها، كنت أربح مبلغاً جيداً من وراء بيع الأرانب، وكان أبي يضع كرسياً ويجلس عليه، يدرج سيجارة ويعفرها، يضع رجلاً على رجل، ويجلس تحت شجرة المشمش، ويبتسم لي، بينما كنت أصلح السقف، أو أطعم الأرانب (الفصَة) التي كنت أشتريها من السوق القريبة من بيتنا، وكانت أختي وهي تكنس الدار تهرتم على الأرانب والذي جاء بها، وتخفض من صوتها، عندما تقول: والذي سمح بها، إنها لا تضايق أحداً، تجدها مشغولة بنفسها، تأكل ثمَ تلعب مع بعضها، وتركض في أرض الدار، وإن كانت تلد فإنها تجلس في زاوية القن لا تحرَك ساكناً، كنت ألاعبها فأمسك بها من أذنيها، وهي تبدو سعيدة، وكانت أمي تجلب لي (الفصَة) من السوق في بعض الأحيان.
في مرحلة أخرى، بعت الأرانب، فقد جاء العيد ولم يكن لدي نقود كي أذهب إلى السينما، فما كان مني إلا وقد جمعتها ووضعتها في كيس ثمَ توجهت إلى سوق الجمعة، وبعتها جميعاً، استقبلت العيد بفرح لأنَ جيبي كان قد امتلأ بالنقود، فدخلت إلى دور السينما وشاهدت ثلاثة أفلام في اليوم الواحد، وكنا نتجمع أمام دار السينما، والباب شبه مغلق بحيث لا يسمح بالمرور إلا لشخص واحد، وكنَا ندخل بشق الأنفس، فتياناً وفتيات، تراهم متجمعين أمام دار السينما التي يعرض فيها فيلم (هرقل أو ماشستي في أرض العجائب) أو فيلم عربي (جعلوني مجرماً) من بطولة فريد شوقي والوجه الجديد ناديا لطفي، دور السينما كلَها مزدحمة، والشاطر هو من يحصل على مقعد ويدخل إلى هذه الدار، وأنا كان يعجبني من الأبطال الأجانب (برت لان كاستر، وجوني ويسملر وأنطوني كوين وريتا بافوني وثريا صلفندياري وكلوديا كاردينالي) ومن العرب فريد شوقي الذي لا يجاريه أحد، وهدى سلطان وشكري سرحان وصلاح قابيل وعبد المنعم إبراهيم واستفان روستي وسعاد حسني، التي لم يكن يضاهيها أحد بجمالها وخفة دمها، وقد نسيت هند رستم وشادية، ونوال أبو الفتوح، والقائمة تطول، فالأبطال الذين نحبهم كثر، والجيوب مليئة وفيلم يعقبه فيلم، إلى أن يبدأ الليل بالدخول فنمضي إلى بيتنا كي نحلم بأفلام اليوم التالي.
في مرحلة لاحقة تطور عملي، فقد اكتشفت أنَ المجلات تساعدني على جمع النقود أكثر من غيرها، فصرت أشتريها وأجلبها معي إلى البيت وأقوم بقراءتها ثمَ أعيرها للأولاد الذين هم من جيلي، أو أكبر قليلاً الذين لا يتمكنون من الذهاب إلى مركز البلد، إما بسبب أنَ أهلهم لا يسمحون لهم بالذهاب، أو أنهم لا يعرفون من أين آتي بها، كنت أشتري مجلات (سندباد وسمير وميكي والرجل الوطواط) صرت أجمع النقود إمَا من التأجير وإما من البيع أو التبديل، فإذا أراد أحد أن يبدل المجلة فإنني آخذ على ذلك أجرة، ولكن قليلة، المهمّ أنَ ثروتي من المجلات ازدادت، وصرت أدخل إلى الصالات المحترمة وآخذ (صندويشة) قبل ذلك مع كأس من اللبن، فكنت أتربع في المقعد وكأنني أمير.
وعندما بدأت بالمراهقة أوكلت إلى أخي الكبير، كي يدربني على الشغل معه، عملت في تجليس المسامير، فقد كنت أجلس وأمامي تلة منها وآخذ بتصليحها، وذلك على مسند من الحديد، وكنت أتقاضى الأجرة كلَ يوم سبت، فأرفع نصفها عند أمي للأيام السوداء، كما كانت أمي تقول، والنصف الآخر أذهب به إلى السينما، فآخذ وضعي السابق، بأنني أصبحت أكثر من أمير، وفي السنة التي تلي هذه السنة، أصبحت (مناولاً) مع أخي في نجارة الباطون، هو في الأعلى وأنا في الأسفل كي ألقي له بالسطامات وألواح الدفوف وأضع للخشبات طبشات مناسبة كي تصبح متينة تتحمَل الدفوف التي فوقها، ومرة كنت أغني لعبد الحليم حافظ، فقد كنتُ من المعجبين به وبصوته، عندما صفقني العزيز بالشاكوش التي يعمل بها، لكنها لم تصبني بل مرَت بجانب وجهي مرور الكرام، وفي مرَة أخرى هرست إصبعي بين الخشبة وحائط الحمام، فانقلع الظفر من الإصبع في اليد اليمنى، أخذوني إلى المشفى، ثم أعطوني إجازة لمدة أسبوع، أخذت أجرته سلفاً، ويومها قررت أن أذهب إلى بيروت تهريباً، سألت عن الموضوع أحد أبناء حارتي، عن كيف يهرب الشاب الذي دون السن القانونية، فشرح لي ذلك، وفي اليوم التالي أقلعت إلى بيروت ووصلت ساحة البرج وحضرت فيلم (قطط شارع الحمرا) فقد شاهدت دعاية له في مجلة الشبكة التي كنت أشتريها بانتظام، استمتعت به كثيراً، وبقيت في بيروت ثلاثة أيام، عدت بعدها إلى المدينة، وكنت قد أخبرت أمي وأبي بأنني مسافر إلى دمشق كي أزور أحد الأصدقاء وأشمُّ الهواء، فدعوا لي بالسلامة.
في الثانوية العامة، لم أشاهد كثيراً من الأفلام، كنت أحضر للفحص، وعندما سجلت في الجامعة، كان التلفاز قد انتشر وعمَ، فقرَرت من ذلك اليوم أن لا سينما بعد اليوم إلا فيما ندر.