مجلة البعث الأسبوعية

تاريخ طويل من التفكير والعمل سبق لحظة الإبادة الجماعية جرائم العدوان “الإسرائيلي” على غزة لم تخف هدفها المباشر للحملة الحالية

البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة

أدى التدمير “الإسرائيلي” المتعمد والتعسفي لغزة، لإثارة ورفع القضايا القديمة المتعلقة بمسؤوليتها السياسية والقانونية في معاملة الفلسطينيين إلى مستوى جديد من الجدية، كما أدى بوضوح إلى طرح قضايا مألوفة تتعلق بجرائم الحرب “الإسرائيلية”، والتي صنفتها منظمة العفو الدولية بوضوح على هذا النحو بعد الأسبوع الأول فقط من العدوان على غزة، كما طلبت منظمة حقوق الإنسان من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية “التعجيل” بتحقيقها في أهداف كافة الأطراف.

لكن هذه الحملة الإسرائيلية تطرح الآن قضية أكثر خطورة وهي الإبادة الجماعية للفلسطينيين كأمة، فالدمار الشامل الذي لحق بغزة والأعداد الهائلة من المدنيين الذين يواجهون الموت جراء القصف، فضلاً عن المجاعة والمرض المتعمدين، كلها تقدم للعالم مشهداً للإبادة الجماعية التي يعجز العالم عن وصفها، والتي تستوجب المساءلة السريعة.

فقد حذرت لجنة خبراء حقوق الإنسان، المكلفة بالتحقيق في حالة الطوارئ في غزة، من أن الحملة “الإسرائيلية” لتدمير غزة وصلت إلى حد ” الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني”.

 وتجدر الإشارة إلى أن تاريخ طويل من التفكير والعمل على الإبادة الجماعية سبق لحظة الإبادة الجماعية هذه، فخلال عدوانها على غزة عام 2014، هددت حكومة الكيان الصهيوني المتطرفة الشعب الفلسطيني علناً بالإبادة الجماعية، كما دعت وزيرة العدل الإسرائيلية أييليت شاكيد، من خلال موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، إلى إبادة جماعية للفلسطينيين، وبررت دعوتها لإبادة الفلسطينيين آنذاك بأنّ الشعب الفلسطيني بأكمله عدو، ويشمل ذلك حسبما كتبت المسنون والنساء، المدن والقرى، المباني والبنى التحتية، مضيفةً أن وراء كل إرهابي يقف عشرات الرجال والنساء بدونهم لا يمكنه الانخراط في الإرهاب، إنهم جميعاً مقاتلون أعداء، ودماؤهم يجب أن تكون على رؤوسهم، وقالت أن هذا يشمل أيضاً الأمهات اللاتي يرسلن أبناءهن إلى الجحيم بالورود والقبلات، عليهن أن يتبعنهم ولا يوجد شيء آخر يمكن أن يكون أكثر عدلاً، عليهن أن يذهبن شأنهن في ذلك شأن منازلهن التي ربّوا فيها الثعابين، وإلا فإن ثعابين صغيرة ستنمو هناك”.

وفي العام نفسه، قال نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي عن حزب الليكود، موشيه فيغلين:  “غزة جزء من أرضنا وسنبقى فيها إلى الأبد، وبعد القضاء على الإرهاب في غزة، ستصبح جزءاً من  السيادة الإسرائيلية وسيقطنها اليهود, الأمر الذي سيخفف أزمة السكن في إسرائيل”.

من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تشبه سياساتها اليمينية المتطرفة سياسات حكومة 2014، لم تبذل أي جهد لإخفاء امتهانها السياسي بالإبادة الجماعية لـ 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في غزة، كما أنها لم تخف هدفها المباشر للحملة الحالية، وهو القضاء على الفلسطينيين بالكامل من غزة.

طوفان الأقصى

كان التعليل الرسمي لحملة التدمير الشاملة التي تشنها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين في غزة هو عملية “فيضان أقصى” التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول، والتي اخترقت من خلالها الحاجز وشنت هجوماً على غلاف غزة للمرة الأولى، حيث فاجأت نظام الأمن الإسرائيلي بالكامل وألحقت به هزيمة مهينة، وهزيمة للحكومة في عيون مواطنيها.

تدعي حكومة الكيان أن العملية التي نفذتها فصائل المقاومة أدت إلى القتل المتعمد للمدنيين الأبرياء، لكن السكان الناجين أكدوا إن الشرطة الإسرائيلية وليست فصائل المقاومة، هي من دمرت العديد من المنازل لضمان مقتل كل من بداخلها، سواء فصائل المقاومة أو الرهائن، وفقاً للإجراءات الإسرائيلية المعتادة.

لذا فإن الزعم الإسرائيلي بأن المقاومة قتلت أكثر من 1400 مدني في هذه العملية أصبح موضع شك، بوصفه جزءاً من الإعداد لجريمة القتل الجماعي التي سيتعرض لها المدنيون الفلسطينيون الأبرياء في الأسابيع التالية.

في الواقع، تمثلت الإستراتيجية الإسرائيلية الأولية لتحقيق هدفها في غزة بتنفيذ قصف مكثف على أهداف مدنية في جميع أنحاء غزة، ما سيضطر السكان الفلسطينيين إلى مغادرة غزة إلى مصر عبر معبر رفح.

لكن هذه الخطة سرعان ما اصطدمت بعقبة كبيرة،  فقد رفض الجانب المصري بشدة فتح الباب أمام نزوح الفلسطينيين، وتمت إدانة الإستراتيجية الإسرائيلية في غزة، حيث أعلنت مصر أن الحرب الجوية الإسرائيلية تجاوزت  مزاعم “الحق في الدفاع عن النفس”، لتتحول إلى عقاب جماعي لـ 2.3 مليون إنسان في غزة.

في هذه الأثناء، أصر الجانب المصري على ضرورة السماح للشاحنات التي تحمل المساعدات الدولية الوصول  للعائلات الفلسطينية التي تم تهجيرها من منازلها، بينما استمرت “إسرائيل” في تأخير الموافقة على أي مساعدات إنسانية يوماً بعد يوم، مع عدم السماح إلا بدخول القليل من هذه المساعدات إلى غزة.

وفي الوقت نفسه، ترى الحكومة الإسرائيلية المتطرفة أن المدنيين الفلسطينيين ليس لهم أي حق قانوني في الحماية على الإطلاق، وعند سؤال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينت عما تخطط “إسرائيل” لفعله بشأن المدنيين الفلسطينيين في مستشفيات غزة بعد أن قطعت جميع إمدادات الوقود التي تعتمد عليها المستشفيات للحصول على الطاقة، صرخ بينيت بغضب: “هل تسألني بجدية عن المدنيين الفلسطينيين؟ ما بكم؟ ألم تروا ما حدث؟ نحن نقاتل النازيين”.

لا حدود قانونية

من خلال تقليص القضية لتصبح “إسرائيل” ضد “النازيين”، سعت الحكومة الإسرائيلية إلى رفض مسؤوليتها القانونية والأخلاقية المتعلقة بالمعاملة الإنسانية للمدنيين، أو الالتزام بالقانون الدولي فيما يتعلق بسلوكها في الحرب، واغتناماً لفرصة هجوم فصائل المقاومة على غلاف غزة، كان الإسرائيليين يأملون في إقناع حلفائهم الأجانب الرئيسيين، خاصةً الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى بأن السكان المدنيين الفلسطينيين قد فقدوا كل حق في الحماية من القصف الإسرائيلي، وبالتالي فإنها لن تلتزم بأي شكل من الأشكال بأية حدود قانونية أو أخلاقية لحربها في غزة، والتي كان ينبغي الاعتراف بها على الفور باعتبارها تهديداً لجميع السكان المدنيين هناك.

وعلى الرغم من أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي لم تكرر عبارة “العقاب الجماعي” في هذه المرحلة من عدوانها الجائر على الشعب الفلسطيني، ومع ذلك، تمارس سلطات الاحتلال عمليات هدم البيوت كعقاب جماعي ممنهج، وهو إحدى الوسائل الأكثر تطرفاً  التي تستخدمها “إسرائيل” لمعاقبة مجتمعات بأكملها في الضفة الغربية. ولطالما كان هذا هو الأسلوب الإسرائيلي المركزي في التعامل مع المقاومة الفلسطينية، بحسب ما ذكرته منظمة “هيومن رايتس ووتش” في شباط الماضي.

في الواقع، قدمت سلطات الاحتلال حرب التدمير الحالية باعتبارها تطبيقاً آخر لنفس المبدأ، والذي يهدف إلى معاقبة السكان المدنيين في غزة بسبب العملية العسكرية التي نفذتها فصائل المقاومة في تشرين الأول، ومن خلال خطابه المحرض على المزيد من القتل، ألقى رئيس الكيان الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، اللوم في تلك العملية على كامل الشعب الفلسطيني قائلاً :أنها أمة بأكملها هي المسؤولة، مضيفا. إنّ النقاش الدائر حول عدم علم المدنيين في غزة بالهجوم، وعدم تورطهم فيه ليس صحيحاً … كان بإمكانهم الانتفاض لمحاربة ذلك النظام الشرير الذي استولى على غزة في انقلاب”. وعندما سأل أحد المراسلين هرتزوغ عما إذا كان يجادل بأن فشل السكان المدنيين في الإطاحة بحكومة حماس جعلهم “أهدافاً مشروعة”، أجاب: “لا، لم أقل ذلك، لكنه بعد ذلك ناقض هذا الإنكار بشكل واضح قائلاً: “عندما يكون لديك صاروخ في مطبخك اللعين وتريد إطلاقه علي، فهل يُسمح لي بالدفاع عن نفسي؟” وبطبيعة الحال، لم يكن هناك أي دليل على أن صواريخ المقاومة قد تم إخفاءها في مساكن المدنيين، وليس من المنطقي عسكرياً أن تفعل فصائل المقاومة ذلك في ظل الظروف الحالية.

من الواضح أن الإدعاء الإسرائيلي المستمر بـ “الحق في الدفاع عن النفس” يقترن بصمت مع الإيمان غير المعلن بالحق في إلحاق المعاناة وحتى الإبادة الجماعية بالفلسطينيين، فقد قامت “إسرائيل” بإلقاء منشورات في شمال قطاع غزة تحذر السكان من أنه ” سيتم تعريف كل من يختار عدم مغادرة شمال غزة إلى جنوب وادي غزة كشريك في منظمة إرهابية” وهو اعتراف صريح بأنه سيتم التعامل معه بالفعل كأهداف مشروعة للقصف.

وفي السياق نفسه، أعلن المدعي العام الإسرائيلي السابق بشكل صريح أنه من أجل تدمير فصائل المقاومة، “عليك تدمير غزة، لأن كل مبنى هناك، هو معقل لحماس”. ويشكل استهداف المستشفيات في غزة مخاطر سياسية إضافية تتمثل في استفزاز وسائل الإعلام التي قد توجيه اللوم للإدارة الأمريكية، لذلك لجأت سلطات الاحتلال إلى عملية تضليل واضحة لتمهيد الطريق لتدمير غزة.

فعندما ضرب صاروخ مستشفى الأهلي المعمداني، ما أدى إلى استشهاد المئات وإصابة ما يزيد على 3000 شخص ممن لجأوا إلى ساحة المستشفى، سارع جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى إلقاء اللوم في الانفجار على حماس زاعماً أن الانفجار كان لصاروخ أطلقته حماس، وأعلن مجلس الأمن القومي الأمريكي موقفه الرسمي بأن “إسرائيل بريئة” من الهجوم الصاروخي، واضطر مجتمع الاستخبارات إلى التعبير عن “ثقته العالية” في أن صاروخاً فلسطينياً خاطئاً هو الذي تسبب في الانفجار، ولكن بعد ذلك بدأت الإدعاءات الإسرائيلية في الانهيار.

فقد ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية أنهم لم يتمكنوا من العثور على مقبرة في أي مكان بالقرب من الموقع الذي ادعى الجيش الإسرائيلي أن الصاروخ الطائش قد أطلق منه، كما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن دراستها الأكثر شمولاً لمقاطع الفيديو ذات الصلة تتعارض مع الإدعاءات الأمريكية الإسرائيلية. ومع ذلك، يمكن “لإسرائيل” الاعتماد على دعم إدارة بايدن، التي وفرت غطاءً سياسياً و دبلوماسياً لها لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة في غزة قبل زيارة الرئيس جو بايدن في منتصف تشرين الأول الماضي.

يرى مراقبون، أنه تم تقليص دور بايدن وبلينكن إلى دور إضافات افتراضية للحكومة الإسرائيلية، حيث نشرا شعار الدعاية الإسرائيلية القائل بأن لـ “إسرائيل” الحق في الدفاع عن نفسها. ومن المؤكد أن دعم إدارة بايدن الجبان للتدمير الإسرائيلي لقطاع غزة المحاصر، يجعل الولايات المتحدة متواطئة ليس فقط في الجرائم الإسرائيلية المتكررة في غزة، ولكن في جريمة الإبادة الجماعية.

وعلى الرغم من أن قضية الإبادة الجماعية لم تبرز بعد في السياسة الدولية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إلا أن هناك الآن سبباً وجيهاً لتوقع إثارتها من جانب الحكومات العربية ومنظمات حقوق الإنسان في الأشهر المقبلة، وستكون هذه اللحظة التاريخية للضغط ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية على النحو الذي دعت إليه اتفاقية الإبادة الجماعية نفسها، ويكفي إثبات أن أي دولة لديها “نية التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية…” وأن هذا ما تقوم به سلطات الاحتلال، من فرض ظروف معيشية على المجموعة عمداً بقصد تدميرها المادي كلياً أو جزئياً”.

من الواضح أن العدوان الإسرائيلي على سكان غزة يخضع لهذين البندين الأساسيين من الاتفاقية، كما تنص اتفاقية الإبادة الجماعية أيضاً على إثبات أن الدولة مذنبة بارتكاب جريمة “التواطؤ” في الإبادة الجماعية، وهو ما يصف بدقة سلوك الحكومة الأمريكية في ظل إدارة بايدن.

مرة أخرى، ليس من الضروري إظهار أن التواطؤ كان مدفوعاً بالرغبة في ارتكاب الإبادة الجماعية المذكورة، ولكن فقط أن الإبادة الجماعية يمكن أن تكون نتيجة متوقعة للأفعال المعنية.

يرى المراقبون، أنه سيتم البت في المسألة القانونية المتعلقة بالإبادة الجماعية فيها في نهاية المطاف من قبل المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة وطنية ذات ولاية قضائية عالمية، كما افترضت المحاكم الإسبانية في الماضي، فدولة فلسطين هي عضو في المحكمة الجنائية الدولية، والمدعي العام لتلك المحكمة لديه ملف مفتوح بشأن إسرائيل وفلسطين.

إن كلاً من الولايات المتحدة و”إسرائيل” طرفان في اتفاقية الإبادة الجماعية، مما يجعل الحملة لمحاسبتهما على دور كل منهما في الإبادة الجماعية الحالية أكثر من التزام أخلاقي عاجل للأشخاص والمنظمات ذات النوايا الحسنة.