دراساتصحيفة البعث

في ذكراه المشؤومة.. وعد بلفور تجسيد فكرة التوطين

د. معن منيف سليمان

يعدّ وعد بلفور المشؤوم في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 تجسيداً لفكرة توطين اليهود في فلسطين عند زعماء الاستعمار الغربي الذين نادوا بها لدوافع استعمارية، وذلك بقصد احتلال بلاد المشرق العربي عن طريق المناداة بضرورة تجميع الجماعات اليهودية في فلسطين، وإقامة كيان لهم فيها، وعندما راجت هذه الفكرة في الأوساط الاستعمارية الأوروبية، كان الصراع الامبريالي الاستعماري محتدماً حول اقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، وكان الصراع على أشدّه بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، ورأت بريطانيا أن فكرة توطين الجماعات اليهودية في فلسطين ستمكّنها من الدفاع عن مصالحها الاستعمارية في الشرق.

ومنذ مطلع القرن العشرين جرت تطورات وفقاً للخطط الاستعمارية المتنافسة المتصارعة، حيث دخلت تركيا عام 1914 الحرب إلى جانب ألمانيا، في الوقت نفسه أخذت بريطانيا تخطّط للاستيلاء على فلسطين وتحويلها إلى وطن قومي للجماعات اليهودية بعد القضاء على السلطنة العثمانية، فدخلت في مفاوضات سرية مع روسيا القيصرية وفرنسا بعد الحرب، وقد عرفت هذه المفاوضات باسم مندوبيها: المندوب الانكليزي “مارك سايكس” والمندوب الفرنسي “جورج بيكو”، حيث انتهت بتوقيع اتفاقية “سايكس- بيكو” السرية عام 1916، وبموجب هذه الاتفاقية حصلت بريطانيا على حصة امتدت من طرف سورية الجنوبية “فلسطين” حتى العراق، وتشمل بغداد والبصرة وجميع البلدان الواقعة على جانبي الخليج العربي.

ومن جانبهم سعى قادة الحركة الصهيونية من أجل أن تتبنّى بريطانيا الهدف الصهيوني فيما يسمّونه “الوطن القومي” نظراً لتوافق هذا الهدف مع إستراتيجيتها في حماية قناة السويس والطريق البري إلى الهند، وحاجتها إلى قوة تعمل على حماية تلك المنطقة، إذ قام زعماء الحركة الصهيونية وفي مقدمتهم “حاييم وايزمان”، “وناحوم سوكولوف” بدورهم في دمج مصالح الحركة الصهيونية بمصالح بريطانيا، فكثفوا الاتصالات مع كبار مسؤولي الحكومة البريطانية مثل “لويد جورج”، “وهربرت صموئيل”، فكان مشروع أسرة “روتشيلد” لتأسيس جامعة يهودية في فلسطين، كما استغل الصهاينة ظروف الحرب لتحقيق أهدافهم التي تركزت حول انتصار الحلفاء، وإقامة الانتداب البريطاني في فلسطين، على أمل انتهاء هذا الانتداب لتسليم البلد للجماعات اليهودية الذين سيستمرون في خدمة المصالح الاستعمارية البريطانية، وزيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

ونتيجة الاتصالات الصهيونية- البريطانية أصبحت الصهيونية حليفاً استراتيجياً لبريطانيا، ففتحت أمامهم مختلف التسهيلات بما في ذلك حق استعمال “الشيفرة” الخاصة بوزارة الخارجية، وسرعان ما قدّم “وايزمن” مذكرة رسمية إلى وزارة الخارجية البريطانية طالبت بالاعتراف بما سمّاه يهود العبرية كوحدة قومية، وجعل ما يسمّى اللغة العبرية لغة قومية، ومنح اليهود الاستقلال الذاتي في كلّ ما يتعلق بالشؤون التعليمية والدينية والاجتماعية والحكم الذاتي والضرائب المحلية.

وبناءً على ذلك أصدرت بريطانيا وعد بلفور في الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1917، وقد جاء الوعد على شكل رسالة موجهة من اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد روتشيلد تضمنت الآتي: “إن حكومة جلالته تنظر بعين الارتياح إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل أطيب مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، وليكن معلوماً أنه لن يعمل شيئاً من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق التي يتمتّع بها اليهود في أي بلد آخر والمركز السياسي الذي حصلوا عليه”.

ولا شكّ أن هذا الوعد بكل ما يحتويه باطل ولا يستند إلى المنطق والقانون كونه صدر عن دولة لا صلة لها بالموضوع الذي يتناوله التصريح، ذلك أن بريطانيا لم تكن قد احتلت فلسطين وليس لها أية مسؤولية على الجماعات اليهودية، وبالتالي هو وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق، ومن جهة أخرى صدر عن دولة إلى هيئة غير رسمية هي الوكالة اليهودية التي ليس لها صفة تمثيلية في فلسطين وليس لها أية علاقة بها.

ويتنكر التصريح لتعهدات بريطانيا للعرب بالاستقلال، وحق تقرير المصير، حسب الرسائل المتبادلة بين الشريف حسين ومكماهون عام 1915، كما يتناقض مع نفسه كونه ينصّ على إقامة وطن قومي للجماعات اليهودية في فلسطين، وفي الوقت نفسه المحافظة على حقوق الطوائف غير اليهودية تلك المعادلة غير المنطقية، حيث أثبتت الأحداث أن الكيان الصهيوني منذ قيامه حتى هذا الوقت يواصل انتهاكاته لحقوق الشعب الفلسطيني المدنية والدينية والسياسية.

ويحمل التصريح تناقضات أخرى في طياته مثل عدم مراعاته للأكثرية الساحقة من عرب فلسطين، في حين يظهر حرصه على الأقلية اليهودية وحقوقها داخل فلسطين وفي البلدان الأخرى، وإن هذا التصريح يؤكد أن سلوك القوى الكبرى لا ينبثق من اعتبارات الحق والإنصاف، ولا من قوتها ودقة نصوصها، أو شرعية منطلقاتها بقدر ما تستقيها من مضمون الأمر الواقع وحكم القوي للضعيف.

وهكذا جاء هذا التصريح الغريب والعجيب تعبيراً عن تطابق المصلحتين الاستعمارية البريطانية والصهيونية، وأصبح فيما بعد أساساً لسياسة بريطانيا في فلسطين والوطن العربي، وفرض هذا الوعد على عصبة الأمم التي اعتبرته جزءاً من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد أعطاه الصهاينة فيما بعد التفسير الذي يتناسب مع مصالحهم، وجعلوا منه أساساً لمطالبهم، وأشاروا إليه في إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948.