غزة تغير معالم المعادلة السياسية الفلسطينية
عناية ناصر
لقد غيرت غزة المعادلة السياسية في فلسطين، كما أنه من المرجح أن تغير تداعيات هذه الحرب المدمرة المعادلة السياسية في الشرق الأوسط برمته، وأن تعيد وضع فلسطين باعتبارها الأزمة السياسية الأكثر إلحاحاً في العالم لسنوات قادمة. فمنذ إنشاء ما يسمى “دولة إسرائيل” المزعومة، وبتسهيل من بريطانيا وحماية من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، كانت الأولويات إسرائيلية بالكامل لجهة “الأمن الإسرائيلي”، و”التفوق العسكري لإسرائيل”، و”حقها في الدفاع عن نفسها”، وغير ذلك الكثير، والتي جميعها حددت الخطاب السياسي الغربي.
إن هذا الفهم الغريب بين الولايات المتحدة والغرب لما يسمى الصراع، والذي ينص على أن الظالم لديه “حقوق” على المضطهدين كان سبباً في تمكين “إسرائيل” من الحفاظ على احتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية منذ أكثر من 56 عاماً . كما أنها مكّنت “إسرائيل” من إهمال جذور هذا الصراع، وتحديداً التطهير العرقي لفلسطين في عام 1948 وحق العودة الذي حرم منه اللاجئين الفلسطينيين لفترة طويلة.
وضمن هذا السياق، تم رفض كل مبادرة فلسطينية عربية للسلام، وحتى عملية السلام المفترضة، أي اتفاقيات أوسلو، تحولت إلى فرصة لـ “تل أبيب” لترسيخ احتلالها العسكري، وتوسيع مستوطناتها، وحشر الفلسطينيين في مساحات أشبه بالبانتوستان، حيث يتعرضون للإذلال والفصل العنصري.
كانت ثمار السلام الأمريكي الإسرائيلي المزعوم فتات بائس من الهيبة الزائفة، والألقاب الفارغة والسلطة المحدودة والتي قامت بمنحها “إسرائيل” نفسها . ومع ذلك، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة بدأت بالفعل في تغيير الكثير من هذا الوضع الراهن المؤلم، حتى تأكيد” إسرائيل” المستمر على أن حربها القاتلة هي ضد المقاومة الفلسطينية ، وضد “الإرهاب”، ربما كان سبباً في إقناع هؤلاء المستعدين لقبول الرواية الإسرائيلية للأحداث في ظاهرها، ولكن بدأ السرد يتغير مع بدء تراكم الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك الآلاف من الأطفال، في مشارح مستشفيات غزة، وفي الشوارع بشكل مأساوي.
إن جثث الأطفال الفلسطينيين المسحوقة، والعائلات التي لقيت حتفها بأكملها، تقف شاهداً على وحشية “إسرائيل”، والدعم غير الأخلاقي من حلفائها، ولا إنسانية النظام الدولي الذي يكافئ القاتل ويوبخ الضحية. من بين جميع التصريحات المتحيزة وأكثرها لا إنسانية التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، ربما كان ذلك الذي أشار فيه إلى أن الفلسطينيين يكذبون بشأن عدد ضحاياهم.
ربما لم تدرك واشنطن ذلك بعد، لكن تداعيات دعمها غير المشروط لـ “إسرائيل” ستكون كارثية في المستقبل، خاصة في منطقة سئمت الحرب والهيمنة والمعايير المزدوجة والانقسامات الطائفية والصراع الذي لا نهاية له . ومع ذلك، فإن التأثير الأكبر سيكون محسوساً في “إسرائيل” نفسها.
عندما ألقى السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة رياض منصور خطاباً قوياً، قامت الوفود الدولية في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالتصفيق دون توقف، مما يعكس الدعم المتزايد لفلسطين ليس فقط في الأمم المتحدة، ولكن في مئات المدن والبلدات وفي زوايا الشوارع التي لا تعد ولا تحصى حول العالم.
لقد انهارت الرواية الإسرائيلية بشكل واضح، وتناثرت إلى ألف قطعة. ومن المؤكد أن هذا ليس هو “الشرق الأوسط الجديد” الذي تنبأ به نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر الماضي.
ورغم كل ذلك، لا يجوز لأي سياق أن يلوث الصورة المثالية التي خلقتها “إسرائيل” للإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. وفي هذا العالم” الإسرائيلي” المثالي، لا يجوز لأحد أن يتحدث عن الاحتلال العسكري، أو الحصار، أو غياب الآفاق السياسية، أو غياب السلام العادل للفلسطينيين.
لكن لم تدرك “إسرائيل” أنها لم تعد تتمتع بالقوة المطلقة، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن “جيشها الذي لا يقهر”، العلامة التجارية التي سمحت لـ”إسرائيل” بأن تصبح، اعتباراً من عام 2022، عاشر أكبر مصدر عسكري دولي في العالم، قد تحول إلى نمر من ورق، وهذا هو أكثر ما يثير غضب الكيان اللقيط، فقد قال عضو الكنيست السابق موشيه فيغلين: “لم يعد الفلسطينيون خائفين منا، ولاستعادة هذا الخوف، دعا السياسي المتطرف إلى تحويل غزة إلى رماد فوراً”.
لا شيء سيحول غزة إلى رماد، فـ غزة لن تموت لأنها فكرة قوية راسخة بعمق في قلوب وعقول كل عربي وملايين الأشخاص الآخرين حول العالم. لقد حان الوقت للحديث عن الحقوق الفلسطينية والأمن الفلسطيني وحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه. لقد حان الوقت للحديث عن عدالة حقيقية، نتيجتها غير قابلة للتفاوض، وعن المساواة، الحقوق السياسية الكاملة، الحرية وحق العودة . لقد قالت غزة كل ذلك بل وأكثر من ذلك بكثير.