الحرب على غزة.. إبادة جماعية بكل المعايير الدولية
هيفاء علي
يحدّد مكتب الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية ومسؤولية الحماية أنه في حالة الإبادة الجماعية، فإن النيّة هي العنصر الأكثر صعوبة في تحديدها، ولكي تكون هناك إبادة جماعية، يجب إثبات أن مرتكبي الأفعال المعنية كانوا يعتزمون التدمير الجسدي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية.
إن التدمير الثقافي لا يكفي، كما أن النية البسيطة لتفريق مجموعة ما ليست كافية. وهذه النية الخاصة، هي التي تجعل جريمة الإبادة الجماعية مميزة للغاية. ومن المهمّ الإشارة إلى أن ضحايا الإبادة الجماعية يتمّ استهدافهم عمداً -ولا يتمّ أخذهم عشوائياً- بسبب عضويتهم الحقيقية أو المتصورة في إحدى المجموعات السكانية الأربع التي تحميها الاتفاقية، والتي تستبعد السياسات، على سبيل المثال. ولذلك، فيما يتعلق بالحرب الوحشية ضد أهل غزة، هل هناك ما يمكن أن ينفي نية الكيان الإسرائيلي المحتل لإبادة أهل غزة، كلياً أو جزئياً، كمجموعة وليس كأفراد؟.
للإجابة على هذا التساؤل، تؤكد الدكتورة ليلى نقولا، أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، على الأهمية القانونية للتمييز بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، مشيرةً إلى أنه رغم كل تصرفات الكيان المحتل الحالية في غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية بكل معايير القانون الدولي، إلا أن الغرب ما زال يصرّ على أنها “دفاع عن النفس”، في حين يتحدث بعض خبراء الأمم المتحدة عن “تطهير عرقي”، مع العلم أنه يصف جريمة غير متضمنة في نظام المحكمة الجنائية الدولية، وفلسطين عضو فيها.
وعليه، فإن الاندفاع الغربي لتبرئة الكيان المحتل من تهمة الإبادة الجماعية يأتي من كونها تعتبر “جريمة الجرائم” في القانون الدولي، خاصة وأنها تجد نفسها مؤهلة كجريمة في “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” مع اتفاقية خاصة لمنعها وقمعها. مضيفةً أنه تمّ استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية” لأول مرة في عام 1944 من قبل المحامي البولندي رافائيل ليمكين، وهو الذي طور مفهوم الإبادة الجماعية لوصف الجرائم التي ارتكبت سابقاً بهدف تدمير مجموعات عرقية أو دينية معينة، جزئياً أو كلياً، بما في ذلك مذبحة الأرمن.
وفي وقت لاحق، تمّ تحديد الإبادة الجماعية كجريمة مستقلة يعاقب عليها القانون الدولي في “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948″، والتي دخلت حيّز التنفيذ في عام 1951. وبعد ذلك، جرّم نظام روما الأساسي أيضاً الإبادة الجماعية، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. بالإضافة إلى ذلك، أشارت محكمة العدل الدولية في عدة مناسبات إلى أن اتفاقية الإبادة الجماعية تضع مبادئ تندرج تحت القانون الدولي العرفي العام، مما يعني أن الدول، سواء صدّقت على هذا النص أم لا، ملزمة قانوناً بالمبدأ الذي بموجبه تعتبر الإبادة الجماعية جريمة يحظرها القانون الدولي. وأعلنت هذه المحكمة نفسها أيضاً أن حظر الإبادة الجماعية يشكل قاعدة قطعية من قواعد القانون الدولي، وبالتالي، لا ينبغي لها أن تسمح بأي استثناء.
كما لفتت إلى أن “التطهير العرقي” أصبح هو المصطلح السائد المستخدم لتجنّب استخدام كلمة الإبادة الجماعية، وفي ظل عدم الاعتراف بها كجريمة مستقلة في القانون الدولي، لا يوجد تعريف دقيق لمفهوم التطهير العرقي، ولا الأفعال التي يمكن تصنيفها على هذا النحو.
وعلى النقيض من الجرائم ضد الإنسانية، ولاسيما النقل والترحيل القسري للسكان المدنيين، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، فإن التطهير العرقي لا يظهر في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ولذلك لا توجد معاهدة تجرّم التطهير العرقي في الوصف القانوني للأعمال التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي في غزة ومن الناحية العملية، فإن استخدام مصطلحات التطهير العرقي أو الجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية لا يعتمد على عدد الأشخاص الذين قتلوا، بل يعتمد على معايير قانونية محدّدة. وما يميز جريمة الإبادة الجماعية عن غيرها من الجرائم هو ضرورة إثبات “نية” مرتكبي الجريمة، وهي تدمير الجماعة كمجموعة، كلياً أو جزئياً.
في حالة السودان، أعلنت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة، برئاسة القاضي أنطونيو كاسيزي، أن قتل عشرات الآلاف من المدنيين في دارفور لا يمكن اعتباره جريمة إبادة جماعية لغياب أدلة كافية على تورّط الحكومة السودانية، إلا أن المتهمين لم يفلتوا من الأحكام الصادرة بحقهم، لأن المعطيات القانونية المتوفرة جعلت من الممكن اتهام مسؤولين حكوميين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وبالنسبة لحالة الكيان المحتل، فمن الواضح أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تصف الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، والذين يدعون إلى قتل جميع سكان غزة أو نقلهم بشكل جماعي إلى سيناء، تثبت نية الكيان في إبادة الفلسطينيين وتحديداً سكان غزة كـمجموعة. ومع ذلك، فقد قرّرت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية في 5 شباط 2021، بالأغلبية، أن الاختصاص الإقليمي للمحكمة في الوضع في فلسطين يمتد إلى الأراضي التي تحتلها “إسرائيل” منذ عام 1967، أي الضفة والقدس الشرقية، ويستطيع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن يشرع في إجراء تحقيقات فيما يحدث في غزة. موضحةً في الختام أنه في حال تجنّب مصطلح “الإبادة الجماعية” قانونياً لسبب ما، فمن الأفضل عدم الإشارة إلى جريمة التطهير العرقي، لأنها لا تدخل في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ومن الأفضل استخدام مصطلحي “الجرائم ضد الإنسانية” و”جرائم الحرب” لأنهما يقعان في قلب نظام المحكمة الجنائية الدولية.