الصهيونية والنازية و”داعش”.. نتاج الرأسمالية الغربية المتوحّشة مع تعدّد المسمّيات
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي
يلاحظ المراقب الفطِن لجميع المنظّمات الإرهابية التي نشأت في العالم خلال أكثر من مئة عام، شيئاً واحداً مميّزاً هو ارتباط هذه المنظمات عضوياً بدول الاستعمار القديم، حيث نشأت الصهيونية في أوروبا على يد الكاتب والصحفي السويسري تيودور هرتزل الذي أراد أن يجمع شتات اليهود عبر العالم وينقلهم من المجتمعات الأوروبية التي كانوا يعيشون داخلها أقلياتٍ تعاني التهميش والاحتقار وتبقى على هامش الحياة السياسية والاقتصادية.
وبعيداً عن الإسهاب في الآليات والخطوات المتخذة المعروفة، اصطدمت الصهيونية في البداية برفض اليهود الهجرة إلى فلسطين، فتحالفت الحركة الصهيونية مع النازية التي نشأت هي الأخرى على أسس قومية نتيجة الصراعات التي كانت قائمة في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية، على إحداث ما يشبه “الصدمة الدافعة” التي تجبر اليهود على الاختيار بين البقاء في أوروبا أو الهجرة إلى فلسطين، فكان سيناريو “المحرقة” ثمرة التحالف القوي بين النازية والصهيونية، على الرغم من جميع النزعات السياسية الصهيونية التي كانت أحياناً وتبعاً للمصالح تصطدم مع النازية، غير أن تهجير اليهود إلى فلسطين كان غاية سامية لدى الطرفين.
وأثناء ذلك، نشأت العصابات الصهيونية المعروفة مثل الهاجاناه والإرغون وشتيرن وغيرها، التي كانت تمارس عمليات القتل والاغتيال والتهجير بحق الفلسطينيين، ونفّذت في هذا السياق عدداً كبيراً من المجازر بحقّهم لإجبارهم على ترك أرضهم خلال النكبة، واستمرّت كذلك إلى وقت متأخر، إلى أن شكّلت مجتمعة ما يسمّى “الجيش الإسرائيلي”، وبالتالي فإن هذا الجيش تكوّن عملياً من مجموعة من قادة العصابات أمثال مناحيم بيغن زعيم منظمة أرجون الإرهابية، التي كانت تتبادل الأدوار مع الحركة الإرهابية الأم “هاجاناه”، وإيغال آلون، وموشيه ديان، وإسحق رابين، وشمعون بيريز.
ورغم أن العلاقات بين هذه المنظمات الصهيونية الإرهابية وسلطات الاحتلال البريطاني بفلسطين اتسمت بشيء من النزاع بين الطرفين أحياناً، حيث اغتالت منظمة “شتيرن” الصهيونية في 6 تشرين الثاني عام 1944، الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط والتر إدوارد غينيس، وكان صديقاً مقرّباً من رئيس الوزراء البريطاني حينها ونستون تشرشل، ومدافعاً عن اليهود في آن معاً، غير أن ذلك لم يتمكّن من إفساد العلاقة بين الطرفين، لأن الهدف واحد.
وكانت عصابة “شتيرن” يقودها في ذلك الوقت إسحاق شامير ويسرائيل إلداد وناثان إلين مور، وهم من أصدر الأمر بتنفيذ عملية الاغتيال التي كان لها فعل الصاعقة في بريطانيا آنذاك، حيث قال تشرشل أمام مجلس العموم بنبرة غاضبة: “إذا كانت جهودنا من أجل مستقبل الصهيونية تؤدّي فقط إلى ظهور رجال عصابات جديرين بألمانيا النازية، فسيضطر الكثيرون، بمن فيهم أنا، إلى إعادة النظر في موقفهم تجاهها”، ومردّ حديث تشرشل هذا أن مؤسّس تنظيم “شتيرن” الصهيوني المتطرّف، ويُدعى أبرهام شتيرن، كان عرض على ألمانيا النازية المساعدة والعمل معاً على طرد البريطانيين من الشرق الأوسط، وأقام اتصالاتٍ متعدّدة مع النازيين على مبدأ “عدوّ عدوّي، صديقي”، وصاغ هذا الموقف في قوله: “العدو هو بريطانيا. ويجب علينا محاربة هذا العدو حتى الموت تحت أي ظرف من الظروف وفي أي حالة”، على الرغم من خدمات بريطانيا الجليلة للحركة الصهيونية بما في ذلك وعد بلفور.
القاتلان اللذان نفّذا عملية الاغتيال وحُكم عليهما بالإعدام شنقاً، أصبحا بطلين لاحقاً، وأطلق اسماهُما على عدة شوارع، وتم إصدار طوابع بريد تخلّدهما، وكُتبت عنهما الكتب وألّفت الأغاني. ورغم أن الوكالة اليهودية أدانت العملية رسمياً عام 1944، إلا أنه تم نقل رفاتهما بعد مرور ثلاثين عاماً إلى فلسطين المحتلة، حيث دُفنا مع مرتبة الشرف العسكرية على جبل “هرتزل” في القدس، وجرت مراسم دفن الرفاة في 26 حزيران عام 1975 بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، وقام بتأبينهما عضو الكنيست الإسرائيلي إسحاق شامير، وهو واحد من قادة عصابة “شتيرن” المتورّطين في ذلك الاغتيال.
كل ذلك يؤكّد أن الكيان الصهيوني مع تقدّم الزمن لا يزال يمجّد قادة العصابات الصهيونية من الإرهابيين، بل إن قادته كلّهم تخرجوا في هذه العصابات، تماماً كما يقوم النازيون في أوروبا الآن بتمجيد قادة النازية الإرهابيين، حيث تزايدت في أوروبا ظاهرة تمجيد الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر رغم كل جرائمه بحق مواطني الدول التي احتلّها وحاربها بدعم وتواطؤ غربيين خفيّين، وكذلك يعرف الغرب جيّداً من هم أتباع ستيبان بانديرا ومَن هم النازيون، ولكنه يستغل النظام الأوكراني النازي الحالي لمحاربة روسيا.
وفي المقلب الآخر كان لا بدّ من تحالف الصهيونية العالمية مع مجموعة من الحركات الإرهابية في المنطقة العربية واستخدامها أداة في نشر الفتنة في عموم المنطقة، حيث قامت بريطانيا بصناعة تنظيمي “الإخوان المسلمين” و”القاعدة” لشرذمة المنطقة العربية وإدخالها في صراعات على أساس ديني ومذهبي، فضلاً عن استخدامها أداة لتفتيت الاتحاد السوفييتي من خلال تصديرها إلى أفغانستان، ثم تولّت الولايات المتحدة، باعترافها، صناعة آخر نسخة للحركات الإرهابية المتطرّفة “داعش” التي أوكل إليها بدعم أمريكي كامل، تنظيمياً وعسكرياً ولوجستياً وسياسياً، تدمير جميع الجيوش العربية في دول المواجهة دون استثناء عبر زرع هذه الحركات برعاية أمريكية في هذه الدول، حيث عملت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” على تقوية هذه الحركة واستخدامها ذريعة لغزو مجموعة من الدول مثل سورية والعراق، من خلال ارتكاب هذه الحركة أبشع الجرائم بحق المواطنين في البلدين، وتصوير هذه الجرائم على أنها حرب أهلية، بينما كانت تتم بتخطيط وتوجيه أمريكيين واضحين، للوصول إلى شرذمة المنطقة وتحويلها إلى مجموعة من الكانتونات المتصارعة والمتناحرة فيما بينها، بشكل يظهر الكيان الصهيوني على أنه “واحة من الديمقراطية” في بحر من الدويلات الطائفية، الأمر الذي يسوّغ إعلان “إسرائيل” دولة يهودية بين هذه الكيانات الطائفية ويجعل وجودها طبيعياً بينها، وبالتالي تصبح جميع الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في المنطقة والعالم نسياً منسيّاً بعد أن غطّت عليها جرائم “داعش” في المنطقة التي رافقها فضاء إعلامي أمريكي غربي ساهم في جعلها مصيبة كبرى تنسي كل المصائب التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين والعرب.
ومن هنا يتبيّن أن محاولة الربط الصهيوني الأمريكي بين حركات المقاومة في المنطقة وتنظيم “داعش” الإرهابي إنما هي محاولة بائسة لنزع الشرعية عن المقاومات في المنطقة، وبالتالي المضيّ بقوّة في فرض المشروع الصهيوني عليها دون عوائق، حيث يظهر الكيان الإرهابي المجرم المسمّى “إسرائيل” كأنه حمامة سلام في المنطقة، في الوقت الذي يمعن فيه بسفك دماء الأبرياء في فلسطين بوجود مظلّة غربية كاملة تمثّلها دول الاستعمار القديم التي دعمت الصهيونية والنازية خلال نشأتهما بشتى الوسائل، على أنهما الذراع الضاربة لها في العالم.