مجلة البعث الأسبوعية

ناس ومطارح.. أم هاني: فطائر من التنور وأخرى من القلب

تمّام بركات

في قلب منحدر جبلي تجانبه طريق إسفلتية ضيقة، يقع بيتها، وكأنه شجرة تطل على واد سحيق، وحوله وبطريقة هندسية عجيبة، توازن السيدة بلسم “أم هاني” حياتها وحياة أسرتها حول تنورها المتقد، كما لو أنه عين برتقالية تحدق بالأفق، وإن حدث وكنت بجولة في المكان، فتشابهت عليك القمم والمعالم الطبيعية، حتى شعرت بـ: “التوهان”، فإنك حال رؤيتك لهذا التنور، الذي يبدو من بعيد كما لو أنه نافذة مضاءة ولكن بشكل مقلوب، فستعلم أنك نجوت، لا من احتمال أن تضيع لساعات هناك، بل من الجوع أيضاً والوحشة.

كانت الشمس قد شارفت على المغيب، وتنور أم هاني لم يبق في قلبه إلا عدة جمرات تحت الرماد، عندما توقفت سيارة، وترجل منها رجل معه ابنه الصغير، وبعد السلام طلب الرجل عدة فطائر ليأكل وابنه، فابتسمت أم هاني محرجة، قبل أن يخرج صوت زوجها من قلب العتمة التي بدأت تتراخى ستائرها في المكان، معلناً أن التنور قد انطفأت جمراته، والعمل انتهى.

لكن الرجل عاد وطلب أي شيء يطعمه لطفله، فهما في السيارة منذ عدة ساعات والطفل جائع، “خسا الجوع يا أمي” نهضت أم هاني برشاقة من تعبها، داعبت وجنة الطفل الباردة، ودخلت إلى البيت وهي تطلب بصوت حازم، من زوجها أن يوقد النار، غابت قليلاً ثم خرجت بكأسي لبن للرجل وابنه، داعبت شعر الصغير، وهي تخبره بأنها ستخبز له أطيب فطيرة قريش وسكر.

تململ الزوج، وبينما راح يضع العيدان الهشة في التنور، اعتذرت أم هاني من التململ الذي أبداه زوجها، مبينة السبب.

عام 2013 ذهب بكرها هاني لتأدية خدمة العلم، وبعد أقل من عام، استشهد، ثم ذهب ابنها الأصغر، “ربيع” وعاد إليها يحمل شلله الذي تسببت به إصابة في العمود الفقري في “خان العسل”.

ولأن العلاج وتكلفته ليست بمقدور العائلة، لذا قررت أم هاني أن تفعل كما العديد من النساء في الساحل السوري، بنت تنوراً هي وزوجها، وبدأت تقدم فطائرها للناس.

نهضت أم هاني من الثقل اللامرئي الموجود حول قلبها، لتتفقد نار التنور، ثم بدأت بفرد العجين على قطعة قماشية سميكة، تبلل يدها بالماء، قبل أن تلصقها في جدار التنور الساخن جداً، ثم أعادت الكرة مرات عدة، وهي تتابع حديثها.

تنهض أم هاني وزوجها إلى العمل باكراً جداً، لا يكون الضوء قد لاحت غرته بعد، يجمع زوجها عيدان الحطب، بينما تجهز العجين المختمر، وعندما تشتعل النار في التنور، يكون يومهما الشاق قد أخذ مساره المعتاد، ليستمر مهما كانت الظروف، حتى مغيب الشمس وانطفاء نار التنور، حينها تنهض أم هاني مرة أخرى من الأوجاع التي بدأت تدب في يديها وظهرها، لتشرف على تغذية ابنها الصغير المشلول، وفي الأثناء يصل المعالج الفيزيائي، الذي صار يأتي إلى البيت، عوض ذهابهم المرهق، وكله بثمنه، وثمن هذا العلاج وغيره من العلاجات التي تلقاها ابنها، لم يكن ليكون متوفراً لولا خبز أم هاني وفطائرها الكريمة.

أخرجت السيدة بلسم الفطائر من التنور، ثم وضعتها في طبق منزلي، وقدمته للرجل وطفله، بينما راح أبو هاني يلف سيجارة تبغ من مزودته، ويبتسم للطفل الغائص في فطيرة القريشة والسكر الشهية، وهي له “خص نص” كما قالت بينما راحت تلفها، لصبح حملها وأكلها أسهل عليه.

التعب والمشقة اليومية التي تبدأ قبل شروق الشمس، وتنتهي عند مغيبها، هو ما جعل الزوج يتململ، فهو متعب وأم هاني أيضاً متعبة، عدا عن الواجبات التي يجب أن تتابعها في منزلها، ومع ابنها المقعد، لكن قلبها لن يحتمل أن يشاهد الجوع يحول ضحكة طفل إلى حزن أو بكاء، فما كان منها إلا أن أعلنت ببضعة كلمات قالتها لزوجها، أن تشرق الشمس مرة أخرى، من قلب تنورها، من قلب قلبها أيضاً.