“سأهمس في أذنك” للشاعرة نداء يوسف حسين.. مجموعة شعرية تفيض بالحيوية والانفعال الهادئ
حين تقرأ الشعر وتلقيك قارورة تتضوع عبقاً، لتسكب أريجها في انفعالات الورق .. وحين يبرق صوت الحب أو تلتقي مشاعر الصفاء ورائحة المواجع ترتديك عبر اهتزازات اللغة على سطح المخابئ المنيعة ،لابد لك من الاعتراف أن تلك الاهتزازات يحق لها أن ترتكب ذنباً بحق الذين لا يقرؤن بأن الشعر سماء مليئة بلغة المتحالفين مع الحياة، وهذا ما وجدته في المجموعة الشعرية “سأهمس في أذنك” للشاعرة نداء حسين، حيث عكس العنوان الذي هو العتبة الأولى معادلة المصالحة مع الوجود نفسه من خلال تغيراته العفوية المرتبطة بمخيلة مشبعة بالرؤى، ولهذا كانت النصوص الشعرية تغوص في أسئلة كثيرة وصراعات الروح والجسد في رداء التعبير العفوي المرتبط بالذوق، حيث يتناغم الانسجام المسبوك في بنيتها الفنية عبر وفرة وتدفق الصور ورشاقتها، والتي ارتقت فيها عاطفة الشاعرة وتوهجت لغتها الرقيقة من خلال مساحة البريق واللمعان والإيقاع اللافت لتقول في قصيدة بعنوان “أصمت”:
أصمت وأترك الحرف يتكلم…/ واجعل خدودي الغافيات على شفتيك تتورم../ أصمت وداو لهفاتي برفق صراخك الأبكم../ جيدي لثمات عينيك وكم أغواه المبسم../ فلا تهدأ لثوراتي.. ولاتفتأ../ جنوني بين أحضانك يهفو ويخبو…
إن هذا الفيض اللغوي الآسر في دلالات الصورة والرمز والإيحاء المكثف يسمو بالغموض إلى مرتبة الشفافية التي عكست علاقة الشاعرة بنصوصها، وبقدرتها على التخطي والتجاوز لما تشهده ساحات التجريب الشعري هذه الأيام من مناخ الحداثة وسعة التخييل والتنويع في زركشة النص الشعري المحلى باندفاعات الرمز النقي المستخدم في مفردات الشاعرة عبر نمنمة الألوان بالشمس.
جاءت القصيدة من فضاءات أخرى، حيث شردت فيها حواس الشاعرة وهي تكتب بلغة هادئة، لكنها مشحونة بعاطفة عميقة وفوق أبراج سطورها تتنوع الموضوعات لتصب في هم واحد هو الشوق الأنثوي الذي تخالف فيه المرأة أصحاب نظرة الدونية، وتدافع عن بقائها في انتماء شعري بعيداً عن الوعظ أو الركون إلى قيمة الأيديولوجيا الباردة التي لم تدخل فيها إبداعات المرأة بعد لغة المجان أو العفوية غير المنظمة .
وفي قصيدة بعنوان “عد لقلبي”تقول الشاعرة: عد لقلبي…./ فقلبي ينزف شوقاً إليك لايبدل../ وداوني ببعض دموعي …/ على كتفك ولن أخجل . ../ لقد ضاعت نداءاتي على طرقك.. ألا تحفل؟؟؟!/ قبلك كنت البتول قلباً وروحاً وكنت الأبهى والأجمل…
في تداعيات هذا النص العاطفية تجدد الشاعرة موقفها المتحد مع ثقافة المقاومة لحصارات الرجل، ومنعها من التحليق في شراكتها معه وفقاً لنظام الحياة التي تحقق فيه المرأة وجودها وكأنها تسكب ميولها الشرقية المترفة بالخيبات رغم سلوكها الماطر في توشيح المفردة الحزينة عبر اشتعال روحي وتمرد مضيء.
وفي هذا النص احتفال شعري سيطر فيه المخزون الوجداني على ماعداه وشاع فيه انبساط الكف عبر أنساق روحية تكاد تكون صوفية الهوى والميول كما جاء في قصيدة بعنوان “قبس من نار”: قبس من نار… وحرارة عشق..في برد خريفي موحل …/ كل الأوراق الصفراء تساقطت../ وبقي عريّ الشجر/ بعض هبوب الرياح../ والكثير الكثير من الحذر…/ وشعرها يداعب خدّه../ ورمشها يعانق رمشه../ والشفتان ترتجفان من هول الخطر…
مجموعة من العلائق التي تنتظم في شبكة كثيفة ذات تقنية محدودة وبناء تركيبي موحد منتظم الأجزاء متوازن فتهيمن عليه إرادة الوعي التي تراقب التجربة الشعرية وتقودها وتوجهها، حيث ذهبت الشاعرة إلى توظيف إمكانيات اللغة، وما تحويه من ترادفات وجناسات واستعارات، واستخدام الصور الحية واعتماد مفردات استمدت من صميم التجربة والجو العاطفي، كما فسحت الحركة الشعرية الجديدة أمام الشاعرة مجال التعبير عن التجربة الحياتية على حقيقتها، فأضحت مهمة الشعر تبيان الانسجام بين التحديد في القصيدة الشعرية الحديثة، وسبر أغوار خبايا النفس وما يعتريها من قلق روحي وتمزق سيكلوجي وفي قصيدة بعنوان “لاتحاول الهروب” تقول الشاعرة: لا تحاول الهروب… فقلبك بقلبي يذوب/ ومازلت أسرّ حبك وأغطي العيوب…لا..لا تحاول الهروب../ خثرات ومسارات.. تنزف كالدروب ../ مهما النزيف أتعبني…عنه لن أتوب..
هنا استمدت الشاعرة تعبيراً مجازياً للدلالة على الصعوبات التي تعترضها.. وقد خرجت عن المعنى الحقيقي للمفردات إلى معنى مجازي، والذي يحيل على معاناتها في تحقيق مرادها عبر مناجاتها للحبيب فالأسطر الشعرية تمثل لوحة فنية اتخذت فيها الشاعرة البحر دلالة الحلم والعشق والمناجاة والوهج العشقي، ورمز الرومانسية، كما جاء في قصيدتها “وأنت تغفو هناك” لتقول: وأنت تغفو هناك .. أنا أحتفظ بك هنا../ نسائم روحي تهبّ حولك/ وتضجر مني الآهات..
نجد تكرار الضمير المتكلم أنا في النص والذي يوحي برفض تام لحركة الجماد.
لقد حاولت الشاعرة نداء حسين أن تضفي على الشعر جغرافيتها الروحية التي تعتمد على الدفقة الشعورية المتماسكة ذات الإيقاع الموسيقي الداخلي، وعلى عنصري الدهشة والمفاجأة وكأنه سيمفونية انعقدت حولها حلبات الرقص والغناء، وقد كتبت النص الشعري المقتضب على طريقة الومضة وخصوبة اللغة باعتبارها أداة من أدوات التغيير على نية الوصول إلى كل القلوب، ولكن دون أن يسمع أنتها أحد.
وأخيراً أقول ما من شك أن هناك علاقة جدلية بين النص الإبداعي وبين منتجه وبمقدار ما ترتقي هذه العلاقة إلى مستوى يوازي حدود الحياة ونتفاعل مع كل تداعيات العلاقة الجديدة بمقدار ما تعكس رؤى فاعلة ومؤثرة في محيطها.
هويدا محمد مصطفى