هذه هي ذهنيتهم…!
حسن حميد
ها أنذا، أعيدُ قراءة مذكرات موشي شاريت (1894- 1965) للمرّة الثانية، ليس لتذكر بعض ما جاء فيها من أكاذيب، وإنما لأفحص روح التفكير الإسرائيلي، أيّ الذهنية الإسرائيلية، ما إن كانت هي هي، ولم تغادر ما اعتقدته صواباً، وما انتهجته من ممارسات، وما آمنت به من معتقدات!.
بلى، ما زالت الذهنية الإسرائيلية هي هي، وما اعتقدته في أيام موشي شاريت وآمنت به، وهو اختلاقات وأكاذيب، ما زال هو هو في زمن قادة الكيان الإسرائيلي في هذه الأيام العاصفة بهبوبها، فالكذب ما زال كذباً، والإنكار ما زال إنكاراً، واللعب على الوقت، والاحتيال على الوقائع ومحوها أو تجميلها، وتجاهل سفك الدماء، وخراب البيوت وتدميرها، والقول إنّ الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، كلّها ما زالت هي هي.
في مذكراته، يقول شاريت، وهو يتحدّث عن مذبحة قبية (1953) التي ذهب ضحيتها غدراً نحو 174 من النساء والشيوخ والأطفال، إنه لم ينم طوال ليلته، وهو يكتب تقريراً أولياً عنها ليكون هو السّردية الإسرائيلية الموجهة للعالم، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، فهذه الدول الثلاث هي العالم بالنسبة إليه، وليكون هو السردية الإسرائيلية المتداولة في الأمم المتحدة، ويعترف، حين يقول، كان لا بدّ من الكذب كي لا تهتزّ أركان (دولة إسرائيل) الحديثة.
اليوم، وفي أيام “طوفان الأقصى” (2023)، وبعد مرور 75 سنة، تمارس الذهنية الإسرائيلية الدور نفسه، وتؤمن بقولة شاريت (لا بدّ من الكذب كي لا تهتزّ أركان دولة إسرائيل)، لأنّ الفلسطينيين أهل الحقّ هزّوا أركان هذا الكيان بأيديهم المالحة، لذلك عاد الإسرائيليون إلى مرضهم الأولاني (القلق الوجودي)، وأسئلتهم الأولانية: هل نحن في المكان الصحيح؟ وما الذي اقترفناه بحق الفلسطينيين طوال 75 سنة؟ وهل حقّاً أنّ الفلسطينيين لا ينسون؟ وهل ميراثهم الوطني هو جينات، وليس أقوالاً، وكتباً، وأفعالاً، وصيغة عيش؟! وهل نحن الآن، وخلال ساعات قليلة عشناها في 7 تشرين الأول 2023، نقف أمام المرآة الكبيرة لنرى صورتنا الحقيقية، وقد تهرّبنا من مواجهتها 75 سنة بتمامها واكتمالها؟!.
نعم، لقد حدثت مذبحة قرية قبية (الواقعة غرب رام الله) في الضفة الفلسطينية (1953) ليلاً، وذهب ضحيتها 174 شهيداً، وكلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وقد رميت القنابل اليدوية داخل البيوت، التي دُمر منها أكثر من 45 بيتاً، مثلما دُمّرت مدرسة البلدة ومسجدها، وقد نصّ قرار بن غوريون (1886- 1973)، وكان يومذاك رئيساً للوزراء ووزيراً للحرب، على أن “تُدمّر البيوت، وأن يُقتل الأهالي، بضربات شديدة، وأن يُهجّر السكان بعيداً عن -مستوطنة يهود- وجعل قرية قبية غير صالحة للسكن، وغير قابلة للحياة”، وهذا ما تمّ فعله.
أرئيل شارون (1928- 2014)، الضابط الذي أوكلت إليه مهمة تنفيذ المذبحة، قال في مذكراته، وهي في 4000 صفحة: “لقد اقتحمنا القرية بالعربات المصفحة ليلاً، وبـ600 من الجنود، وطاردنا الأهالي في شوارع القرية، والبيوت، وقد قتلنا كلّ من صادفناه، وكلّ من حاول الفرار، ولم أنم إلا عندما كتبت إلى بن غوريون: لقد انتهينا من قرية قبية، فما عاد لها وجود، وحين غادرناها تركنا وراءنا الجثث، والدماء، والعويل، والخوف”!!.
ويقول شاريت: “حين عاتبت بن غوريون على ما فعله الجيش الإسرائيلي تجاه أهل قبية، أننا سنفتح المجال واسعاً أمام مجلس الأمن ليوجّه إلينا اللوم الفظيع”، قال لي: “لا يوجد شيء اسمه مجلس الأمن. أرسل لمندوبنا هناك برقيةً تقول إنّ نزاعاً قروياً حدث في قرية قبية، فوقع خلاله بعض الضحايا، وقد هبّت وحدةٌ من جيشنا لتهدئة خواطر القرويين هناك، وانتهى الأمر”!.
هذه هي صورة الذهنية الإسرائيلية التي كانت، عام 1953، أيام شاريت وبن غوريون، وها هي صورتها اليوم التي تشبهها تماماً، فالكذب يعمّها، والاستعلاء يلفّها، والإعلام الإسرائيلي والغربي يتلقّفانها بكلّ ما فيها من دون مراجعة أو تمحيص، وينشرها كيما تكون هي السردية الذائعة والمنتشرة عالمياً، في حين تبدو الحقيقة في مكان آخر، وفحواها أنّ الإسرائيلي، وبكلّ ما يمتلك من قوةٍ متعدّدةِ البطش والتدمير، يقترف مجزرة شنيعة بحقّ الأطفال والنساء والشيوخ في قطاع غزة والضفة الفلسطينية أيضاً، يقتل بالطائرات والمدفعية والبوارج الحربية، والمداهمات البرية، ويدمّر ليس البيوت والمدارس والمشافي ودور العبادة فقط، بل يُدمّر الحياة، ويُهجّر السكان من مكان إلى آخر، ثم يقتلهم في المكان الذي أوصى بالتوجه إليه، وكلّ ذلك يحدث على مرأى ومسمع من العالم، وعبر شاشات التلفزيون، وما من أحد يفعل شيئاً كي يتوقّف سفك الدماء والقتل، على الرغم من مشاهد اصطفاف التوابيت في باحات المشافي والشوارع والسّاحات العامة، بل على الرغم من الدفن الجماعي للضحايا، والشلل الذي أصاب كلّ أسباب الحياة، من الماء إلى الكهرباء إلى الخبز والدواء.
أجل، إنها الذهنية الإسرائيلية ذاتُها التي لا بدّ لها من الارتطام (وإن اعتمدت ثقافة الموت نهجاً لكي تبقى، وثقافة الكذب أسلوباً لكي تروّج سرديتها، وثقافة القوة كممارسة لتوطيد أركانها)، بقوة الحقّ، وقوة الحياة، وقوة التاريخ، وقوة الجغرافية، وقوة روح الاجتماع، وكلّ هذا هو فقيدُ الذهنية الإسرائيلية، وهو الطعوم التي لم تتذوّقها أيام قبية 1953، والآن في “طوفان الأقصى” (2023)، وذلك لأنّ من اعتاد على قطع الأشجار في الغابة ببلطته، لن يسمع خرير المياه، ولن يقتنع أنه موسيقا، ولو عاش ألف سنة.
Hasanhamid55@yahoo.com