إعادة تصويب البوصلة
أحمد حسن
ميشال سالزمان أمريكية برتبة “مشرّعة جمهورية عن ولاية فلوريدا الأميركية” قامت مؤخراً بالدعوة في اجتماع عام إلى موت جميع الفلسطينيين، وحين حاولت زميلتها التأكّد ممّا سمعت كان ردّها: “جميعهم”.
والقضية هنا أن سالزمان ليست صوتاً صارخاً في البرية، فكما نعرف جميعاً نطقت هذه “المشرّعة” علناً بما يضمره البعض “تأدّباً” ويعلنه الآخر فجوراً وعنجهية، وفيما سمعناه، خلال الفترة الماضية ممّن هم أعلى منها مرتبة في سدّة القرار والتأثير مثل التفرقة بين “أبناء النور وأبناء الظلام” أو الحديث العنصري عن “الحديقة الأوروبية والأدغال”، الكثير من هذه الروح الدمويّة المجرمة، وإذا كان البعض يعدّ ذلك، وتحديداً في حالة سالزمان، “نتيجة مباشرة لعقود من القمع وتجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته على يد دعاة الفصل العنصري الإسرائيلي وممكّنيهم في الحكومة الأمريكية ووسائل الإعلام”، فإنه، على صحّته، ليس إلا جزءاً من سياق أبعد مدى وأعمق غوراً من ذلك.
هنا تحديداً نفهم مغزى افتتاح السيد الرئيس بشار الأسد لكلمته أمام القمة العربية الإسلامية الطارئة، بتلك الجملة الكاشفة: “غزة، لم تكن يوماً قضية، فلسطين هي القضية وغزة تجسيد لجوهرها وتعبير صارخ عن معاناة شعبها”، وبذلك يصبح “الحديث عن غزة بشكل منفرد” إضاعة للبوصلة، لأنها “جزء من كل” ومحطة في سياق “طويل يعود إلى خمسة وسبعين عاماً من الإجرام الصهيوني، مع اثنين وثلاثين عاماً من سلام فاشل، نتيجته الوحيدة المطلقة غير القابلة للنقض أو التفنيد هي أن الكيان ازداد عدوانية والوضع الفلسطيني ازداد ظلماً وقهراً وبؤساً”، وتلك جملة ممّا يسمّى وضع اليد على جوهر مشكلتنا، بل مأساتنا، الحالية: “المزيد من اليد الممدودة من قبلنا تعادل المزيد من المجازر بحقنا”.
بهذا المعنى، فإن العدوان والقتل اللذين نشهدهما الآن ليسا طارئين، فكلاهما، كما قال الرئيس الأسد، “مستمر وكلاهما ملازم للكيان وسمة له”، ولأنهما كذلك فإن المساعدات والبيانات والخطب لن تقدّم حلّاً لشيء ولا بد من استخدام “أدوات حقيقية للضغط”، و”في مقدّمتها إيقاف أي مسار سياسي مع الكيان الصهيوني بكل ما يشمله المسار السياسي من عناوين اقتصادية أو غيرها لتكون عودته مشروطة بالتزام الكيان بالوقف الفوري المديد لا المؤقت للإجرام بحق كل الفلسطينيين في كل فلسطين، مع السماح بإدخال المساعدات الفورية إلى غزة”.
وتلك هي الأولوية اليوم، وما عداها هو كلام “لن يثمر ولن يجدي، لأنه لا وجود لشريك ولا لراعٍ ولا لمرجعية، ولا لقانون، ولأنه لا يمكن استعادة حق، والمجرم أصبح قاضياً، واللص حكماً وهذا هو حال الغرب اليوم”.
خلاصة القول، منذ خمسة وسبعين عاماً اختصرت فلسطين بكل حمولاتها الاستراتيجية، جغرافياً وثقافياً وتاريخياً، جوهر الصراع مع الغرب وفي طليعته مشروع الهيمنة الأميركية، وحملت على أكتافها وبدم أبنائها مسؤولية وعبء المواجهة، لذلك فإن معركتها هي، بالمحصلة، المعركة الفصل، وذلك وإن كان غائباً عن بعضنا لأسباب عدّة -منها ما هو مصلحيّ ضيّق للأسف الشديد- فهو ليس غائباً عن العدو، لذلك نشهد هذا التوحّش سواء في الفعل أم في التغطية السياسية (سالزمان، وسواها أيضاً) له، ولأن غيرنا يملك مشروعه الخاص فإن عبء المواجهة يقع علينا أولاً، ونستطيع في هذا السياق أن نبني، كما قال الرئيس الأسد، على ما حققته المقاومة الباسلة كما على “التحوّل العالمي الذي فتح لنا أبواباً سياسية أغلقت لعقود لندخل منها ونغيّر المعادلات لتكون الأرواح الغالية التي ارتقت في فلسطين ثمناً مجزياً لتحقيق ما عجزنا عنه ماضياً وما علينا إنجازه حاضراً ومستقبلاً”، وتلك وصفة صريحة وواضحة لمجموعة خطوات عملية تهدف إلى إعادة البوصلة إلى اتجاهها الحقيقي بعد أن عمل الكثيرون من أغراب وأعراب على أن يبقى العرب غارقين في “داحس وغبراء” ممتدّة إلى زمن لا نهاية له، أو إلى نهايتهم أجمعين.