بعيداً عن “التّسطيح” والرّومانسية الخيالية.. نماذج واقعية وتوثيقية وجادّة من “بوليوود”
البعث الأسبوعية- نجوى صليبه
سوّقت ـ وتسّوق ـ قنوات تلفزيونية كثيرة لأفلام سينمائية هندية تقوم على الهرج والمرج والسّطحية، وتدور في غالبيتها حول قصّة البطل الواحد، وهو إمّا عاشق ولهان أو هارب من العدالة، وفي كلتا الحالتين يتمتّع بقوى خارقة تمكّنه من صرع عشرات الرّجال في خمس دقائق، لدرجة يبدو كشخصية أسطورية لا يثنيها بشر ولا حجر ولا حديد، أمّا الوجه الآخر للسّينما الهندية فلم تتطرّق إليه هذه القنوات، ولا نعرف السّبب وراء ذلك، أي هل تفعل ذلك عمداً أم أنّها تسير وفق الحجة الجاهزة “الجمهور عاوز كدا”.
وعندما نقول الوجه الآخر للسّينما الهندية، فإنّنا نقصد الأفلام الاجتماعية الجادّة التي لا تعتمد على “الرّقص والفقص” وأفلام الشّتات أي تلك التي تتحدث عن الهنود الذين يسكنون خارج البلاد والصّراع الدّاخلي الذي يعيشونه بين الالتزام بالتّقاليد وبين التّأقلم مع البيئة الجديدة، طبعاً بالإضافة إلى الأفلام ذات المضمون السّياسي، وتلك التي توثّق لشخصيات كان لها تأثيرها ودورها في بناء مجتمع ما أو قيادته للتّحرّك والتّمرّد وعدم الاستكانة للظّلم وبطش الظّالمين.
ولن نتحدّث عن تاريخ السّينما في بلد يضمّ اثنين وعشرين لغةً رسميةً الإنكليزية واحدة منها، وثقافات متنوّعة بصورة كبيرة جدّاً، بلد ينتج سنوياً ما يقارب الألفي فيلم، لكن سنلقي الضّوء على بعض الأفلام التي تعطينا صورة عن الوجه الآخر لهذه السّينما والذي تعتّم عليه بعض القنوات التّلفزيونية ـ كما ذكرناـ، والبداية مع “غانغباي كاثياوادي” إنتاج 2022 وإخراج “سانجاي ليلا بهنسالي”، وهو فيلم درامي يروي قصّة حقيقية لسيّدة اسمها “غانغا هارجيفانداس” ـ تؤدّي شخصيتها الممثلة “عاليا بهات” ـ ولدت في عائلة ثرية في “كاثياواد”، وكانت تطمح لأنّ تكون ممثّلةً في “بوليوود”، لكنّها تقع في حبّ شابّ يعمل محاسباً لدى والدها “رامنيك لال” وتهرب معه إلى “مومباي” ويتزوجان هناك، ثمّ يبيعها لأحد بيوت “الدّعارة”، وبعد أن كانت تجبر على ممارسة الجنس، صارت تمارسه بإرادتها ووفق شروطها، ليس هذا فحسب بل وترشّحت لانتخابات الحيّ وفازت فيها أيضاً، وبذلك تمكّنت من تقديم المساعدة أكثر من ذي قبل للفتيات اللاتي جبرتهن الظّروف على العمل في هذا البيت المشبوه، الذي تحاربه إدارات المدارس المجاورة له، لكنّها لا تقف مكتوفة اليدين، بل تجادل بالحجة والبراهين و”تقلع عين” كلّ مؤسسة تحاربها بإشارتها إلى مواطن الفساد لديها، أي تصبح مدافعة عن حقوق المرأة والمساواة في حقوق العاملين في هذا المجال، وذلك بمساعدة “رحيم لالا ـ أجاي ديفجان” شقيقها اليمين بعد أن ضرب رجلاً من عصابته قام باغتصابها.
“المليونير المتشرّد” إنتاج عام 2008 م، وإخراج “داني بويل” والنّص لـ “سايمون بوفوي” وهو مقتبس عن رواية للكاتب والدّبلوماسي الهندي “فيكاس سوارب” التي تحمل عنوان “سؤال وجواب”، ويحكي الفيلم قصة شاب فقير وغير متعلّم اسمه “جمال مالك” فقد والدته في إحدى الصّراعات الدّاخلية وهرب مع أخيه “سليم” وصديقة لهما، ونشأ معهم حياةً صعبةً وقاسية جدّاً في أحياء عشوائية بإحدى مدن الهند، ويقرر أن يشارك في النّسخة الهندية من برنامج “من سيربح المليون”، ومع كلّ سؤال يطرح عليه يعود بذاكرته إلى ماضيه الحزين، ثمّ يعطي جواباً صحيحاً، فمثلاً عند طرح سؤال الـ250 ألف روبية، والذي يقول: “دارغان دو غنشان أغنية هندية كتبها شاعر هندي شهير، ما اسمه؟»، يعود جمال بشرحه لسبب معرفته للإجابة إلى الأحداث التي تلت هروبه مع أخيه والفتاة “لاتيكا” ليخبره عن حياتهم التي قضوها بين مكبّات النّفايات يجمعون القمامة، وكيف أنّه بأحد الأيام قدم إليهم رجل اسمه “مامان” اكتشفوا فيما بعد أنّه زعيم عصابة تستخدم الأطفال المشرّدين في أعمالها، وترسلهم إلى التّسوّل في الشّوارع لكسب المال، ويتذكّر كيف أنّ “مامان” جعلهم يحفظون أغنية “دارغان دو غنشان” ليغنّوها أثناء تسوّلهم، وكيف كان يفقأ عيون الأولاد، لأنّ الضّريرين منهم يحصلون على “غلّة” أكبر من السّليمين.
يصل “جمال” إلى السّؤال الأخير، وينتقل مقدّم البرنامج إلى استراحة قصيرة وخلالها يعرض على “جمال” أن ينسحب من البرنامج ويأخذ المبلغ الذي وصل إليه، لكن “جمال” يرفض ذلك ويربح المليون بذاكرته وبتعب السّنين الماضيات، لكنّ حقد مقدّم البرنامج لا يدع الأمر يمرّ هكذا، إذ نشاهد رجال الشّرطة يتّهمون “جمال” بالغشّ، مبررين ذلك بأنّه كيف يمكن لمتشرّد أن يجيب على كلّ تلك الأسئلة ويربح المليون؟.. وعندها يتأكّد الضّابط من صدقه ويطلق سراحه، ثمّ يشارك في الحلقة الثّانية من البرنامج، ويجيب على سؤال العشرين مليون روبية، في الحقيقة كلّ جواب في هذا الفيلم يمكن أن يكون قصّة لفيلم آخر، وعلى الرّغم من كلّ القهر الموجود في كلّ ثانية منه، لا يمكن للمشاهد إلّا أن يثني على فريق العمل من كاتب ومخرج وممثل، ولا يمكن إلّا أن يبتسم ابتسامة رضا وثناء وسخرية من عبثية الحياة.
“رازي 2018” فيلم من إخراج “ميغنا جولزار” وإنتاج “كاران جوهر” و”فينيت جاين” وبطولة “آليا بهات” و”فيكي كوشال”، وهو مأخوذ عن قصّة حقيقية وقعت أحداثها خلال الحرب الهندية ـ الباكستانية 1971.. وهي قصّة فتاة هندية توافق على زواج تقليدي من ضابط في الجيش الباكستاني وتتقرّب من عائلة زوجها بهدف التّجسس على تحرّكات الجيش والقوات الباكستانية ومخططاتهم وأحاديثهم ونقلها، مهمّة صعبة على فتاة صغيرة بدأ قلبها يميل إلى زوجها الذي صار يقابلها الحبّ حبّاً واهتماماً، ربّما هذا ما ساعده على اكتشاف أمرها، وتالياً وقوعه في حيرة كبيرة، فهو كضابط في الجيش لابدّ من تأدية واجبه تجاه وطنه، وكزوج عاشق لابدّ من الوفاء لحبّه، كذلك الأمر بالنّسبة إلى الزّوجة التي وجدت صعوبة في الابتعاد عن زوجها وحبيبها، لكنّها أخيراً تنجح في الهروب بخطّة ذكيّة، بينما يلقى زوجها مصيره في انفجار يقع بالخطأ، والجدير ذكره أنّ هذا الفيلم حصد جوائز عدّة منها “جائزة فيلم فير السّينمائية” لأفضل فيلم لعام 2019، جيث فازت الممثلة “آليا بهات” بجائزة أفضل ممثلة في دور رئيس، كما فازت المخرجة “ميجنا جولزار” بجائزة أفضل مخرج.
ومن المواضيع المهمّة التي اشتغل عليها سينمائيو “بوليوود” التّعليم، ونذكر على سبيل المثال “سوبر 30” للممثّل الهندي “هريثيك روشان”، ويستند الفيلم الذي أنتج في عام 2018 على السّيرة الذّاتية لعالم الرّياضيات الهندي “أناند كومار” المعروف ببرنامج “سوبر 30” الذي أطلقه في عام 2002 لتدريب الطّلبة الفقراء على اجتياز امتحان القبول في المعاهد الهندية للتّكنولوجيا، ويعدّ هذا الفيلم من الأفلام الملهمة التي تبيّن أهمية التّعليم في تغيير حياة الإنسان وتحقيق طموحاتهم، ويقدّم الفيلم حياة “كومار” الذي مكّنته إسهاماته في مجلّات ودوريّات محلية ودولية من الحصول على فرصة للدّراسة في جامعة “كامبريدج” البريطانية، والذي حالت ظروفه المادّية السّيئة دون الاستفادة منها، فقد توفّي والده فجأةً، وتكفّلت والدته في تربيته من خلال صنع الحلوى في المنزل ومن ثمّ بيعها، ويبدأ هو بإعطاء دروس الرّياضيات للطّلاب، وأراد أن يقدّم شيئاً للطّلاب الفقراء الذين يعانون ما عاناه، فاستأجر شقّة صغيرة في حي عشوائي وأسماها “مدرسة رامانوجان للرّياضيات” تيمّناً باسم عالم رياضيات هندي ومشهور عالمياً، وبعد أن كانت دروسه مجانيةً، طلب مبلغاً زهيداً من الطّلاب لكي يستطيع الاستمرار بتشغيل المدرسة بدوامٍ كاملٍ، وبسبب الفقر الشّديد لأحد الأطفال أطلق برنامج الـ”سوبر30″، حيث يجري اختباراً تنافسياً لاختيار ثلاثين طالباً من سكّان المناطق الفقيرة، ويعلّمهم مجاناً أي يوفّر لهم الإقامة والطّعام عاماً كاملاً، وهذا ما أثار غيرة وحفيظة المدارس التّجارية، ودفعها إلى محاولة قتله مرّتين، وفي المقابل كان هناك من يحاول استقطابه من الشّركات الخّاصة المحليّة والدّولية، لكنّه رفضها جميعاً وأردا أن يكون مشروعه وحده بعمله وتعبه، الذي حلّق خارج الهند ووصل إلى قناة “ديسكفري” في عام 2009، حيث عرضت برنامجاً مطوّلاً حول برنامج “سوبر30″، كما خصصت صحيفة “نيويورك تايمز” نصف صفحة للحديث عن “كومار”، ودعاه “معهد ماساشوستس للتّكنولوجيا” وجامعة “هارفارد” للحديث عن مشروعه، وصنّفت مجلة “ذا تايمز” البرنامج على قائمة “الأفضل في آسيا” لعام 2010، وفي عام 2011 ألّف طبيب نفسي هندي مقيم في كندا اسمه “بيجو ماثيو” كتاباً حول القصّة الملهمة للمعهد الذي أسسه “كومار”.
وبالإضافة إلى التّعليم تناولت السّينما الهندية مواضيع ومشكلات اجتماعية كثيرة وبواقعية وموضوعية عالية كالتّحرّش الجنسي وجرائم القتل وفساد المؤسسات الحكومية ولا سيّما القضاء والشّرطة، لكنّنا سنعود إلى السّياسية والشّخصية الأكثر تأثيراً في المجتمع الهندي وثقافته وفي السّينما الهندية أيضاً ألا وهو “المهاتما غاندي”، فقد أنتجت أفلام كثيرة تتناول سيرته الذّاتية أو جانباً منها، بعضها تناول جزءاً من عقيدته السّلمية وبعضها علاقته بابنه البكر، بينما ركّز بعضها الآخر على حادثة اغتياله، وهنا لابدّ من التّذكير بأنّ عدداً من هذه الأفلام كان إنتاجاً هندياً بحتاً، وأنّ جزءاً آخر أنتج بالشّراكة مع شركات أجنبية، ونلقي الضّوء هنا على عدد قليل منها على سبيل المثال لا الحصر، والبداية مع “ذا ميكنج أوف ذا مهاتما” وهو إنتاج مشترك بين إنكلترا والهند، وعُرض أوّل مرّة في عام ١٩٩٦، ويعدّ هذا الفليم فيلماً توثيقياً أكثر منه درامياً، فقد ركّز على كلّ الأحداث التي مرّ فيها وعاشها “غاندي” مذ كان طالباً بإحدى جامعات إنكلترا، مروراً بمراحل نضاله في سبيل الإنسانيّة والحريّة والسّلام.
“أبي غاندي2007” ويعدّ بعض النّقاد هذا الفيلم من أكثر الأفلام التي تناولت حياة ونضال “غاندي” أهميةً، وتدور أحداثه حول رحلةٍ قام بها مع نجله الأكبر “هاريلال”، وتالياً ما يرافقها من مصاعب تفرض الحكمة والصّبر وتتطلّب التّحدي، كما يضيء الفيلم على علاقة الأب بابنه، وكمعظم الآباء يتمنّى “غاندي” أن يبقى ابنه إلى جانبه يناصره ويسانده في نضاله وكفاحه، بينما يخطط ابنه للدّراسة خارج البلاد، وهذا ما يفعله حقّاً، ونذكر هنا أنّ الفيلم من بطولة “أكشاي خانا” وحاصل على خمس جوائز دولية.
والجدير ذكره هنا أنّ “بوليوود” أنتجت أفلاماً تستند على أقوال لـ”غاندي” منها “هاي رام” الذي عرض أوّل مرّة في عام 2000، ويستند على الكلمات الأخيرة التي نطق بها “غاندي” في لحظات الموت، كما يروي الفيلم قصّة كواليس اغتيال الزّعيم والأحداث التي عقبت الفاجعة، من صراع وانقسامات سياسية تلقي بظلالها على العلاقات الشّخصية كالزّواج والحبّ والصّداقة.
الحديث عن هذه السّينما المميزة لا يمكن أن يتمّ من دون الوقوف قليلاً عند المكان الذي يبرع في اختياره مخرجون هنديون، لكن قد يقول قائل: “هذه هي البيئة وهذا هو المكان في الحقيقة”.. نعم قد تكون كذلك أو هي كذلك فعلاً، لكن هذا لا يلغي قدرة المخرج على اختيار المناسب والأفضل منها، وترتيبه أو بعثرته بشكلٍ يخدم القصّة، فكم من الأفلام التي قلنا إنّ هذا المكان ليس مناسباً لهذا الحدث أو ذاك، طبعاً نضيف أيضاً اختيار الممثلين الذين يؤدّون شخصيّات رئيسةً أو ثانوية، أما الكومبارس فعنصر لم يغفل المخرج الهندي أهميّته، بل اهتمّ بأكثر تفاصيله دقّةً، ولا سيّما في الأفلام التي تتطلّب حشوداً كبيرةً.
وإن كان لابدّ من خاتمة، فسنقول ما قلناه في البداية، من المسؤول عن محاولات تسطيح العقول وتشويه عقل الآخر وصورته؟.