مجلة البعث الأسبوعية

رسائل تتجاوز المكان والزمان ومعادلات ردع تتجاوز الجيوش

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد   

مع التصعيد والعدوان الإسرائيلي غير المسبوق في الوحشية والفاشية على الشعب الفلسطيني، وما رافقه من عمليات صبيانية أمريكية في المنطقة عبر جلب الغواصات وحاملات الطائرات في جو حرب هادف لإيصال رسالة إلى محور المقاومة ودوله بأن واشنطن قادمة لفعل شيء تجاههم، وأنها تسعى مع قاعدتها الكبرى “إسرائيل” لشنّ حرب في المنطقة، تغيرت الأمور إلى حدّ كبير بعد مضي الشهر الأول من العدوان على غزة، كما ظهرت مؤشرات تدل على أن المهلة الأمريكية الممنوحة للكيان الصهيوني قد انتهت، فلا أهداف تحققت ولا انتصارات ظهرت، ولم يبقَ أمام المحور الصهيو-أمريكي الآن سوى تلقي ضربات المقاومة ومن فم ساكت، فأمريكا بالمختصر بدأت الآن تحذر “إسرائيل” وبصريح العبارة بعدم الانخراط في حرب مع حزب الله بعد أن زالت الغباشة عن عيونها والتخبط الذي وقعت فيه عند بداية العدوان، رغم جهود رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في توسيع الحرب لإجبار أمريكا على الغوص في مستنقعها خدمة لمصالح اليهود، إلا أن إدراك الأمريكي بعجز “إسرائيل” عن إدارة الملفات نسف أدنى فكرة لتوتير المنطقة.

على المقلب الآخر نرى المقاومة بشكل جديد تقدّم أنموذجاً قوياً للردع، فجنوب لبنان يساند غزة وكأنه يعيش في غزة، والفصائل الفلسطينية في لبنان التي تم إقصاؤها عن المشهد المقاوم منذ عام 1982 بدأت الآن تشارك في العمليات جنباً إلى جنب مع المقاومة الوطنية اللبنانية، وبدأت توليد قلق ومخاوف جديدة للاحتلال الإسرائيلي، إضافةً إلى حالة التشاغل التي خلقتها المقاومة اللبنانية لقوات الاحتلال عبر إجبارها على تحريك عصابات جيشها وآلياتها نحو شمال الكيان، وإخلاء 24 مستوطنة بشكل رسمي وغيرها بشكل غير رسمي، وسقوط وعود العدو بأنه سيضمن سلامة عناصره الذين بدأوا يسقطون بالعشرات لتتحول المشاغلة إلى استنزاف حقيقي وباعتراف وسائل إعلام الكيان التي قالت حرفياً “الحياة والموت بيد حزب الله”، رغم التزام المقاومة اللبنانية حتى اللحظة بالعقلانية التي أشاد بها الجميع، وإتباعها قواعد الاشتباك المتدحرجة، ومع تأكيدها في الوقت نفسه أنها لن تتخلى عن قطاع غزة وعيونها ما زالت على الميدان.

يبدو أن العدو الإسرائيلي بدأ بتنفيذ الوصية الأمريكية “إياكم واستدراج حزب الله للانخراط في المعركة لأقصى الحدود لأن ذلك سيغير المعادلات”، فبعد أن تبنى نتنياهو الغارق في الهزائم هدف توسيع الحرب عاد الرأي الآخر للظهور عبر مؤشرات صهيو-أمريكية عديدة بعد طول صمت عن صواريخ المقاومة وضرباتها لأمريكا في اليمن والعراق وسورية، وبعد فشل جيش حرب العدو وارتكابه أقصى ما يمكنه فعله من دمار وقتل أطفال ونساء على مدار أكثر من شهر، حيث عاد الصهاينة للوقوف أمام معادلة الردع وحساب كم الخسائر السياسية والاقتصادية والبشرية والعسكرية التي طالتهم وأطاحت بـ”هيبتهم” وأوهام استعادتها، وما يحصل في هذا المشهد يعاكس ما حدث بحرب تموز عام 2006 والتي كان قرارها إسرائيلي في أول عشرون يوم منها، لكنها مُدّدت بقرار أمريكي إلى اليوم الـ33 رغم اليأس الإسرائيلي للبحث عن تحقيق أي هدف قد يفيد المحور الصهيو-أمريكي، أما اليوم فالمهلة الأمريكية انتهت بعد فوات الشهر الأول، والتمديد الإسرائيلي العبثي هدفه لملمة ذيول الهزيمة مهما أخذ من وقت.

أما على المقلب العراقي ورغم البعد المكاني وانفصال الجبهة جغرافياً عن غزة، إلا أن الرسائل ما زالت تصل من بغداد إلى غزة “نحن معكم بالحشود والطائرات المسيرة والصواريخ” التي فتكت بشكل متدرج بالقواعد الأمريكية غير الشرعية في العراق، ومن ثم في سورية، وأيضاً وصلت أم الرشراش “إيلات” والبحر الميت في عمق الكيان الصهيوني، حيث تنطلق المقاومة الوطنية العراقية من ضرب تلك القواعد لإيمانها التام بأن أمريكا هي سبب العدوان على غزة وقتل شعبها، وسبب كل سوء آلت إليه المنطقة، وضرب قواعدها سيوجه رسالة قوية لها لتزيد من ضغوطها على “إسرائيل” لوقف الحرب على الشعب الفلسطيني، كما تهدف المقاومة العراقية إلى تقديم دفعة معنوية كبيرة للمقاومة في غزة ولكل حركات المقاومة سواء في دول محور المقاومة، أو حتى تقديم الدعم المعنوي لكل أحرار العالم في غمرة تغير الموقف الدولي والمزاج العام العالمي لصالح تأييد القضية الفلسطينية وإدانة “إسرائيل”، وفي ظل السكون المريب لمؤسسات المجتمع الدولي وعجزها عن إيقاف العدوان الصهيوني، إضافةً إلى هدف المقاومة في إخلاء العراق والمنطقة من القواعد الأمريكية التي تحاول مصادرة القرار السياسي والاقتصادي وتفتيت الوحدة الوطنية.

إن العنصر الأهم في تلك الضربات كان عنصر المفاجأة والتوقيت، إضافةً إلى نوع الأهداف والدقة في الإصابة، والتنقل المتدرج من العراق إلى سورية وصولاً إلى الأرض المحتلة، إضافةً إلى ضرب العدو بوقت واحد في أكثر من مكان دون أن يستطيع التفكير بالردّ أو كيفيته وتخوفه من مفاجآت أكبر مما تم تحقيقه ضد قواته، والدليل على نجاح تلك الضربات يكمن في الصمت الأمريكي عن البوح بالخسائر وعدم اعترافه إلا بجزء بسيط منها، حيث اقتصرت أقوله على أن العمليات حققت 56 إصابة في 46 هجوم في سورية والعراق. بعد أن استهدفت المقاومة العراقية قواعده غير الشرعية في عين الأسد وحرير، وفي سورية التنف وتل بيدر والشدادي وحقلي العمر وكونيكو، وفي الأرض المحتلة استهدفت “إيلات” والبحر الميت.

لقد أثبتت المقاومة العراقية تطوير قدراتها منذ عام 2003 إبان الغزو الأمريكي المشؤوم لأرض العراق، وتخفي المزيد من المفاجآت لتحقيق “إستراتيجية إدارة الرعب في المعركة”، عبر خوض حروب لا تعترف بالمكان والحدود والزمان والمدن المدمرة ولا التواجد على الأرض، وكل أعمالها تصب نتائجها ضمن زيادة قوة محور المقاومة وزيادة الضغط على المحور الصهيو- أمريكي.