آلية التلاعب بالرأي العام.. الصمت أكثر أشكال الدعاية فعّالية
سمر سامي السمارة
على الرغم من جرائم الحروب التي ترتكبها الولايات المتحدة والجرائم المماثلة التي يرتكبها حلفاؤها ووكلاؤها مثل “إسرائيل”، واستخدامها غير القانوني للقوة العسكرية بهدف الإطاحة بحكومات أو أنظمة “العدو”، وعلى الرغم من ارتكاب الأعمال العدائية العسكرية التي يتمّ تبريرها بدعوى محاربة “الإرهاب”، فضلاً عن قصف وقتل المدنيين، والدمار الشامل لمدن بأكملها، تواصل وسائل الإعلام الغربية التضليل ونشر المعلومات المزيفة أمام الشارع الأمريكي، وبحسب مراقبين فإن الأميركيين العاديين يشتركون في النفور العام من الحرب، ولكنهم يميلون إلى قبول هذه السياسة الخارجية العسكرية لأنهم معرّضون بشكل كبير للدعاية الغربية، وهي آلية التلاعب بالرأي العام التي تعمل جنباً إلى جنب مع آلية القتل اللتين تبرران الأهوال التي لا يمكن تصورها.
يعمل منهج “تصنيع الموافقة” بعدة طرق، ولعلّ الصمت هو واحد من أكثر أشكال الدعاية فعالية، فهو ببساطة لا يُظهر ما الذي تفعله الحرب حقاً بأولئك الذين تحوّلت بيوتهم ومجتمعاتهم إلى ساحة معركة بقيادة الولايات المتحدة.
واقع الحال يُظهر أن الحملات المدمرة التي شنّها الجيش الأمريكي أسقطت في السنوات الأخيرة أكثر من 100 ألف قنبلة وصاروخ على الموصل، والرقة، ومناطق أخرى، وبحسب تقرير استخباراتي عراقي فإن أكثر من 40 ألف مدني لقوا حتفهم في الموصل، في حين تعرّضت الرقة لتدمير كامل، وعلى الرغم من أن قصف الرقة كان أعنف قصف مدفعي أمريكي منذ حرب فيتنام، إلا أن وسائل إعلامهم غضّت الطرف ولم تأتِ على ذكره إلا بشكل طفيف، حيث تعتبر الإدارة الأمريكية أن إحاطة هذا الموت والدمار الجماعي بالسرية هو إنجاز كبير.
عندما حصل الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بينتر على جائزة نوبل للآداب عام 2005، في خضم حرب العراق، أطلق على خطاب جائزة نوبل عنوان “الفن والحقيقة والسياسة”، واستخدمه لتسليط الضوء على هذا الجانب الشيطاني من حرب الولايات المتحدة، وبعد الحديث عن مئات الآلاف من عمليات القتل في إندونيسيا واليونان وأوروغواي والبرازيل وباراغواي وهايتي والفلبين وغواتيمالا والسلفادور وتشيلي ونيكاراغوا، تساءل بينتر: “هل حدثت الحرب؟ وهل يمكن إرجاعها في جميع الأحوال إلى السياسة الخارجية الأمريكية؟ الجواب نعم، لقد حدثت وهي ترجع إلى السياسة الخارجية الأمريكية، وتابع، لكنك لن تعرف ذلك، كأنها لم تحدث على الإطلاق”.
في الواقع، كانت جرائم الولايات المتحدة، ولا زالت، ممنهجة ومستمرة وعديمة الرحمة، لكن قلة قليلة من الناس تحدثوا عنها بالفعل، فقد مارست الإدارات الأمريكية المتعاقبة كلّ أنواع الشرور في جميع أنحاء العالم، بينما كانت تتنكر كقوة من أجل الصالح العام. فقد أسقطت الولايات المتحدة وحلفاؤها أكثر من 350 ألف قنبلة وصاروخ على 9 دول منذ عام 2001، منها 14 ألفاً في العدوان الحالي على غزة، أي بمعدل 44 غارة يومياً، لمدة 22 عاماً.
من المؤكد أن “إسرائيل”، التي قتلت في حربها الحالية على غزة، أكثر من 12 ألف فلسطيني حتى الآن، والتي يشكل الأطفال أكثر من 40% من ضحاياها، ترغب في تقليد قدرة الولايات المتحدة غير العادية على إخفاء وحشيتها، لكن على الرغم من الجهود التي تبذلها “إسرائيل” لفرض تعتيم إعلامي، فإن المجازر التي ترتكبها في منطقة صغيرة، مغلقة ومكتظة بالسكان، لا يمكن إخفاؤها عن العالم.
إلى ذلك، قتلت “إسرائيل” عدداً قياسياً من الصحفيين في غزة، ويبدو أن هذه إستراتيجية متعمدة، كما حدث عندما استهدفت القوات الأمريكية الصحفيين في العراق، لكن إجرامها هذا لم يمنع من نشر مقاطع فيديو وصور مرعبة للفظائع التي ترتكبها يومياً بحق الأطفال والنساء، وقصفها للمستشفيات التي تكافح من أجل معالجة المصابين والجرحى؛ وأولئك الذين يفرّون من مكان إلى آخر عبر أنقاض منازلهم المدمرة.
والسبب الآخر لعدم إخفاء هذا العدوان هو أن “إسرائيل” هي التي تخوضها، وليست الولايات المتحدة، لكن الولايات المتحدة تقوم بإمدادها بمعظم الأسلحة، فقد أرسلت حاملات طائرات إلى المنطقة، وأرسلت جنرال مشاة البحرية الأمريكية جيمس جلين، لتقديم المشورة التكتيكية لجيش الاحتلال ا”لإسرائيلي” بسبب خبرته في ارتكاب مجازر مماثلة في الفلوجة والموصل، لكن يبدو أن القادة الإسرائيليين بالغوا في تقدير قدرة آلة حرب المعلومات الأمريكية على حمايتهم من التدقيق العام والمساءلة السياسية.
وخلافاً لما حدث في الفلوجة والموصل والرقة، فإن الناس في جميع أنحاء العالم يشاهدون مقاطع فيديو للكارثة التي تتجلّى للعيان من خلال أجهزة الكمبيوتر والهواتف وأجهزة التلفزيون، فلم يعد نتنياهو وبايدن و”محللو الدفاع” الفاسدون على شاشات التلفزيون هم من يصنعون الرواية.
في ظلّ الحرب والإبادة الجماعية التي يشهدها العالم، تتحدّى الشعوب في كل مكان الإفلات من العقاب الذي تنتهك من خلاله “إسرائيل” القانون الإنساني الدولي بشكل ممنهج.
أفاد مراسلا “نيويورك تايمز”، مايكل كراولي وإدوارد وونغ، أن المسؤولين “الإسرائيليين” يدافعون عن جرائمهم في غزة من خلال الإشارة إلى جرائم الحرب الأمريكية، ويصرّون على أنهم ببساطة يفسّرون قوانين الحرب بالطريقة نفسها التي فسّرتها الولايات المتحدة في العراق وغيرها من الدول، فهم يقارنون غزة بالفلوجة والموصل، وحتى بهيروشيما.
في الحقيقة، شجّع فشل العالم في محاسبة الولايات المتحدة “إسرائيل” على الاعتقاد بأنها قادرة أيضاً على القتل وارتكاب الجرائم دون عقاب، فالولايات المتحدة تنتهك بشكل منهجي الحظر الذي يفرضه ميثاق الأمم المتحدة على التهديد باستخدام القوة أو استخدامها، وتختلق مبررات سياسية تناسب كل حالة كما تستخدم حق النقض في مجلس الأمن للتهرب من المساءلة الدولية، كما يستخدم المحامون العسكريون الأمريكيون تفسيرات فريدة واستثنائية لاتفاقية جنيف الرابعة، والتي بموجبها يتمّ التعامل مع الحماية العالمية التي تكفلها الاتفاقية للمدنيين، باعتبارها ثانوية بالنسبة للأهداف العسكرية الأمريكية.
جدير بالذكر، أن فظائع مثل هيروشيما وناغازاكي وقصف المدن الألمانية واليابانية “لإجلاء” السكان المدنيين، كما سمّاها ونستون تشرشل، أدت إلى اعتماد اتفاقية جنيف الرابعة الجديدة في عام 1949، لحماية المدنيين في مناطق الحرب والخاضعة للاحتلال العسكري.
في الذكرى الخمسين لاتفاقية عام 1999، أجرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر المسؤولة عن مراقبة الامتثال الدولي لاتفاقيات جنيف، دراسة استقصائية لمعرفة مدى فهم الناس في مختلف البلدان للحماية التي توفرها الاتفاقية، كما قامت باستطلاع آراء أشخاص في اثنتي عشرة دولة كانت من ضحايا الحرب، وفي أربع دول من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وهي فرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وفي سويسرا حيث يقع مقرّ اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وفي العراق الذي كانت تحتله الولايات المتحدة، أدّت تفسيرات الولايات المتحدة الضعيفة بشكل استثنائي لاتفاقيات جنيف إلى نزاعات لا نهاية لها مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر وبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، التي أصدرت تقارير فصلية دامغة عن حقوق الإنسان.
وأكدت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق باستمرار أن الغارات الجوية الأمريكية في المناطق المدنية المكتظة بالسكان كانت انتهاكاً للقانون الدولي، على سبيل المثال، وثق تقريرها عن حقوق الإنسان للربع الثاني من عام 2007 تحقيقات بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق في 15 حادثة قتلت فيها قوات الاحتلال الأمريكية 103 مدنيين عراقيين، من بينهم 27 لقوا حتفهم في غارات جوية في الخالدية، بالقرب من الرمادي في 3 نيسان، و7 أطفال قتلوا في غارات جوية، وهجوم بطائرة مروحية على مدرسة ابتدائية في محافظة ديالى يوم 8 أيار.
وعليه طالبت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق بأن يتمّ التحقيق بشكل شامل وسريع ونزيه في جميع المزاعم الموثوقة حول عمليات القتل غير المشروع التي ترتكبها القوات المتعددة الجنسيات، واتخاذ الإجراءات المناسبة ضد الأفراد العسكريين الذين يتبيّن أنهم استخدموا القوة المفرطة أو العشوائية، موضحة أن القانون الإنساني الدولي العرفي يتطلب عدم وضع الأهداف العسكرية داخل مناطق مكتظة بالسكان المدنيين، كما رفضت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق ادعاءات الولايات المتحدة بأن قتلها للمدنيين على نطاق واسع كان نتيجة استخدام المقاومة العراقية للمدنيين كـ”دروع بشرية”، وهو أسلوب دعائي أمريكي آخر تحاكيه “إسرائيل” اليوم.
إن الاتهامات “الإسرائيلية” باستخدام الدروع البشرية تصبح أكثر سخافة وعبثاً في منطقة غزة المكتظة بالسكان، حيث يستطيع العالم أجمع أن يرى أن “إسرائيل” هي التي تضع المدنيين في خط النار وهم يبحثون يائسين عن الأمان من القصف “الإسرائيلي”.
اليوم، تتردّد أصداء الدعوات لوقف إطلاق النار في غزة في جميع أنحاء العالم، في قاعات الأمم المتحدة، ومن حكومات الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة مثل فرنسا وإسبانيا والنرويج؛ وفي شوارع لندن وواشنطن.
يرى مراقبون أنه إذا كان زعماء الولايات المتحدة و”إسرائيل” يأملون في أن يتمكنوا من تجاوز هذه الأزمة، وأن يكون الاهتمام الشعبي القصير المعتاد كافياً لغسل رعب العالم إزاء الجرائم التي نشهدها جميعاً، فقد يكون هذا بمثابة سوء تقدير خطير آخر.