الإعلام الغربي.. انحياز أعمى لـ”إسرائيل”
د. معن منيف سليمان
الانحياز الغربي لـ”إسرائيل” لم يقتصر على المستوى السياسي، بل تعدّاه ليشمل وسائل الإعلام العالمية التي اندفعت لتغطية ما يحدث في فلسطين من خسائر لـ”إسرائيل” وترديد روايتها، مع تضييق وضبط للمحتوى المدافع عن الحق الفلسطيني. فاخترقت بذلك وسائل الإعلام الغربية أبسط قواعد وأخلاقيات العمل الصحفي في أثناء تغطيتها للعمليات العسكرية الجارية حالياً في قطاع غزة، حيث عمدت إلى تصوير الجانب الإسرائيلي كضحية لعملية “طوفان الأقصى”، التي أطلقتها المقاومة، دون الالتفات كثيراً أمام الردّ الإسرائيلي الشرس الذي أتى على البشر والحجر في القطاع.
منذ اندلاع حرب “إسرائيل” الانتقامية على غزّة بعد هجوم “طوفان الأقصى” الذي نفذته المقاومة في السابع من تشرين الأول (الفائت) لوضع حدّ للانتهاكات الإسرائيلية، سارعت الدول الغربية إلى إعلان دعمها غير المشروط لـ”إسرائيل” و”حقها في الدفاع عن النفس”.
وتوحّدت لهجة قادة دول الغرب الكبرى وأكّد كلّ من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا في بيان مشترك لهم “دعمهم الثابت والموحد” لـ”إسرائيل”، جاء في البيان: “سنبقى متحدين وسنواصل التنسيق مع إسرائيل كحلفاء وأصدقاء مشتركين”. الموقف لم يتغيّر مع تكرار جرائم الحرب التي ترتكبها “إسرائيل”، تلك التي تنحدر إلى حدّ “الإبادة الجماعية”.
وفيما يخصّ اللغة الإعلامية، هناك حديث دائماً عن “حق إسرائيل” في الدفاع عن نفسها في مواجهة ما سمّوه “الإرهاب” الفلسطيني في أعقاب طوفان الأقصى، حيث نشرت الصحف الغربية مقالات عن “الهيجان القاتل الذي نفذته المقاومة”. وكذلك تحدثت عمّا سمّته “الهجوم المتعطّش للدماء الذي نفّذته المقاومة”. هذا النوع من العبارات لن يُستَخدم أبداً من قبل وسائل الإعلام الغربية لوصف الجرائم الإسرائيلية ذات الحجم المماثل أو حتى الأسوأ. ولن تصف هذه المنابر أبداً قتل “إسرائيل” لآلاف المدنيين في غزة بأنه “هيجان إسرائيلي قاتل” أو “هجوم إسرائيلي متعطّش للدماء”. وعندما تقصف “إسرائيل” المنازل والمستشفيات والمدارس في غزة، فإن لها “الحق في الدفاع عن نفسها”، ولكن أية مقاومة يقوم بها الفلسطينيون تعدّ “إرهاباً”.
وتُستخدم كلمة “إرهابي” حصرياً من قبل وسائل الإعلام والسياسيين للإشارة إلى “المقاومة” بتهمة استهدافها للمدنيين المزعومة، لكنها لن تنطبق أبداً على “إسرائيل” عندما يتبيّن أنها استهدفت المدنيين عمداً في غزة، أو عندما تعاقب الفلسطينيين بشكل جماعي، كما فعلت على مدى الأعوام الستة عشر الماضية في غزة من خلال حصارها الخانق.
ويقول المنتقدون إن هذه أعمال إرهاب دولة ويجب وصفها على هذا النحو، والعديد منها جرائم حرب واضحة حتى في وصف الأمم المتحدة.
ويلاحظ المتابع كذلك، تحيّز الإعلام الغربي في المسميات المستخدمة في عناوين التقارير الإخبارية، حيث وصف الهجمات التي نفذتها المقاومة ضدّ “إسرائيل” بأنها “مذبحة”، في حين يستخدم مصطلحات معتدلة عند نقل الأخبار المتعلقة بالعدوان الإسرائيلي، ويربطها مباشرة بقتال المقاومة، متجاهلاً أن تلك الهجمات تؤدّي إلى قتل مئات المدنيين أيضاً.
الانحياز في اختيار المصطلحات المنحازة ظهر كذلك في انحيازه للرواية الإسرائيلية، إذ جاء في تغريدة عند وصف الأحداث، أن الإسرائيليين “يتعرضون للقتل، في حين جرى وصف الفلسطينيين بأنهم ببساطة يموتون”، وكأن الوفيات الفلسطينية عرضية أو غير متعمّدة، أو مجهولة السبب، ولكنها تحدّد بوضوح سبب وفيات الإسرائيليين نتيجة “أعمال عنف”.
الاتهام الآخر الموجّه إلى وسائل الإعلام الغربية في تغطيتها للقضية الفلسطينية هو أنها تغفل السياق المهمّ لفهم الصراع العربي الإسرائيلي بالنسبة لوسائل إعلام غربية عدّة، ضربة من “المقاومة” هي استفزاز، فيظهر الهجوم كأنه غير مسوّغ وخرج من العدم. ويقول المنتقدون إن هذا يصبح محور الاهتمام الوحيد لوسائل الإعلام، إذ يصورون “المقاومة” بعبارات بسيطة كونها الخصم الوحيد، وتقزيم هذا الصراع على أنه صراع بين “دولة ديمقراطية” ذات سيادة من ناحية، و”جماعة إرهابية” من ناحية أخرى، مثلها مثل حرب الولايات المتحدة الأمريكية على تنظيم “القاعدة”. أما القضية الفلسطينية أو مسألة الاحتلال الإسرائيلي فهناك محاولات لوضعها بمعزل عن الأحداث الحالية مع إزالة كلّ السياق السياسي الأوسع والمباشر.
وهناك حرص على التأكيد على أن المقاومة “جماعة إرهابية” لا تمثل المواطن الفلسطيني، وأنها قامت باختطاف غزة وبفرض إرادتها على سكان القطاع، وأن الهجوم الذي قامت به لا يمثل جزءاً من المقاومة الشرعية للاحتلال. مع الحرص أيضاً على إبراز الخلافات بين المقاومة والسلطة الفلسطينية، والتمييز بين سكان الضفة وسكان غزة، في محاولة لخلق انطباع بأن المقاومة لا تعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني وليست ممثلاً شرعياً له.
وهناك سردية يتمّ التأكيد عليها في الإعلام الغربي بأن “إسرائيل” قامت بالانسحاب من غزة عام 2005، وبالتالي فإن قطاع غزة لم يعد محتلاً من جانب “إسرائيل”، لذا فإن هدف مقاومة الاحتلال ـ وفقاً لذلك ـ لا ينطبق على حالة غزة. كما يتمّ التأكيد على أن المقاومة قد حصلت على منح ومعونات من دول عربية وغربية، وكان بإمكانها أن تستخدم هذه المعونات في تطوير قطاع غزة وتحويله إلى منطقة سياحية أو صناعية مثل سنغافورة، ولكن المقاومة اختارت أن تستخدم الموارد التي أتيحت لها لشراء وتطوير الأسلحة بهدف الهجوم على “إسرائيل”.
ويقوم الإعلام الغربي بالربط بين الحرب الراهنة في الأراضي المحتلة وبين الحرب في أوكرانيا، حيث يتمّ تصوير العدوان الإسرائيلي على غزة على أنه جزء من الصراع بين “قوى الخير” المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الديمقراطية، و”قوى الشر” المتمثلة في روسيا والصين وإيران وحزب الله المقاومة، ولذلك يصبح ـ حسب هذا السياق الغربي ـ دعم “إسرائيل” وأوكرانيا في حروبهم الراهنة جزءاً من معركة الغرب ضدّ القوى المعادية والممانعة له حول العالم.
ويتجلّى الانحياز الإعلامي الغربي الأعمى في تبنّي كلّ الأخبار الواردة من “إسرائيل” عندما تحدّث الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن “قطع المقاومة رؤوس أطفال إسرائيليين”، الذي فبركته مصادر إسرائيلية، كما تناقلته وسائل إعلامية غربية مشهورة. واتهام حركة الجهاد الإسلامي بالمسؤولية عن مجزرة مستشفى المعمداني في غزة. ولم تكتف بالانحياز الفج إلى الجانب الإسرائيلي على حساب معاناة المدنيين الفلسطينيين، لكنها جلبت من ينتقدون سياسة المنصات الإعلامية المحايدة.
الأنباء التي اعتُمدت في الغرب على أنها حقائق ـ دون تحقق ـ أُفردت لها تغطيات واسعة قبل أن يظهر سريعاً أن مصدرها جندي اسمه ديفيد بن زيون، وهو من عتاة المستوطنين المؤيدين لقتل الفلسطينيين، صرح بها لقناة إسرائيلية وطارت بها الأنباء كحقيقة في كبرى قنوات التلفزة الغربية وتصدّرت صحفهم.
لكن غياب الحياد والمهنية عن تغطية كثير من وسائل الإعلام الغربية لعملية طوفان الأقصى والحرب غير المسبوقة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، لم تتوقف عند حدّ الانحياز للرواية الإسرائيلية، ومحاولة نشر التضليل الإعلامي بشكل ممنهج، بل وصل إلى “إسكات” بعض الأصوات التي لا تتماهى مع هذا النهج.
وتكرّر طرد صحافيين وموظفين من أعمالهم بسبب تضامنهم مع فلسطين، واستخدمت ضدهم ذريعة “معاداة السامية”، في تهديد خطير لحرية الرأي والتعبير وانحياز واضح، ولكنه ليست شأناً جديداً في التعامل مع القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن هذا الانحياز الإعلامي الغربي، ليس جديداً، بل هو سمة معتادة ومستقرة، لكن في زمن السماوات المفتوحة، ومع تزايد دور وسائل التواصل الاجتماعي، فقد تزايد إدراك ووضوح هذا الانحياز بشكل غير مسبوق، حيث أصبح من السهل تداول نماذج ومقاطع الفيديو التي تكشف هذا الانحياز على وسائل التواصل الاجتماعي بين الملايين من العرب، ما خلق حالة من الغضب في أوساط الشعوب الغربية تجاه الولايات المتحدة والدول الغربية، وأظهر أن الحكومات في وادٍ والشعوب في وادٍ آخر!.
لكن المفارقة ـ التي توقف عندها الكثيرون ـ أن وسائل الإعلام الغربية لطالما قدّمت للعرب “دروساً” في حرية التعبير، خصوصاً إذا ما تعلّق الأمر برسوم أو تصريحات مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم أو للمقدسات الإسلامية عموماً، وقد جاءت ممارساتها العملية لتكون عكس ذلك.
لقد أكد “طوفان الأقصى” أن نزاهة الإعلام الغربي وبحثه عن الحقيقة “واحترامه” لعقول الأمريكيين والأوربيين على حدٍّ سواء هو “أكذوبة” أجادوا بثّها وردّدها كثيرون من العرب “انبهاراً” بالغرب وبكل ما يأتي منه وما يقوله، ودوماً الانبهار هو أكبر إساءة للعقول والعامل الرئيسي في الخداع، فنتقبل ما يُقال لنا بلا تفكير، وهو ما يفعله الغالبية العظمى من الإعلام في أمريكا وأوروبا!.