هذه هي الحال.. يا توماس!
حسن حميد
أجل، كتبتُ لـ توماس بالك (كاتب ألماني تعرفتُ إليه في مؤتمر للرواية في مدينة باريس)، فقلت له: إنني أحمد الله وأشكره لأنّ رسالتك جاءت في وقتها تماماً، ولأنّ سؤالك الوجيز (كيف أنتم؟ ما أخباركم؟)، شقّ قلبي فأبان ما فيه من ألم أسود، ووجع حارق، وحزن غامق ثقيل، وغرابة لا تحتمل.
أصارحك، يا توماس، أنني ما كنتُ أظنّ أنّ ألمانيا، التي عانت من الأحزان والفقد والموت والخراب والبكاء الخرافي الطويل مرتين في حربين عالميتين مذهلتين، تصير إلى هذه الصورة من دعم ونفاق، وهرولة، وترديد الأكاذيب، والبدو على هذه الحال الأسيفة من الانحناء والمذلة أمام الإسرائيلي الذي يقتل، ويدمّر، ويشرّد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الفلسطينية وهو يتباهى ببربريته، ونازيته، وقدرته على التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، وأنتم، يا توماس، من عانى واكتوى ودفع الأثمان بسبب روح النازية والاستعلاء وكراهية الآخر، فكيف لكم أن تربّتوا على كتف الإسرائيلي القاتل المتوحش الذي يحاصر قطاع غزة منذ سنوات، ويجتاح الضفة الفلسطينية في كلّ يوم، فيقتل ويدمّر ويعتقل منذ 75 سنة، وها هو اليوم يضيف فيقطع الكهرباء والماء، ويمنع الدواء والطعام، ويلغي كلّ أشكال التواصل ما بين سكان قطاع غزة، وعديدهم أكثر من2.3 مليون نسمة، كي يموتوا أمام الكاميرات، وتدمّر بيوتهم ومدارسهم ومعابدهم ومشافيهم ومؤسساتهم أمام الكاميرات أيضاً، وهو يعطّل ويمنع بث كلّ خبر وكلّ صورة يوثّقان لجرائمه المتواصلة منذ أكثر من أربعين يوماً.
يا توماس، وأنت الأديب الذي يكتب المسرحيات والأشعار، الآن، لا هواء في غزة والضفة الفلسطينية سوى الهواء المشبع بالبارود، الفلسطينيون، ومنذ 75 سنة يتنفسون البارود الإسرائيلي ليل نهار، ومع ذلك هم أحياء، يعيشون المذابح في القرى والمخيّمات، ويعون مفاعيل الألم فينادون: بلادي.. بلادي.
ما يفعله الإسرائيلي، يا توماس، جرائم وأكثر، وهو بربرية وأكثر، ونازية وأكثر، وإبادة وحشية وأكثر، ومع ذلك يُهرع قادةُ غربكم إلى بلادنا المحتلة، لا لمواساتنا بأطفالنا الخُدج الذين ماتوا بعدما غادروا حواضنهم مجبرين بسبب انقطاع الكهرباء، وأطفالنا الذين ماتوا تحت سقوف بيوتهم؛ قادتكم هرعوا كي يباركوا جرائم الاحتلال الإسرائيلي التي يقترفها جنوده بحقّ النساء، والأطفال، والشيوخ، وهنا أسألك لماذا يا توماس؟ أليس هذا.. من أجل أن يبقى هذا الاحتلال الإسرائيلي، أهذه هي القيم التي تتحلون بها، أهذه هي خلاصات حربين مذهلتين عرفتهما بلادكم!.
أكاد أجنّ، يا توماس، أكاد أخرج من جلدي، لأنني ما عدتُ أعرف شيئاً عن الحضارة والقيم والأعراف والقوانين الدولية التي تتحدثون عنها، وما عدتُ أصدق ما قلتموه في آدابكم التي أيّدتموها بالجوائز، ولا ما أيّدتموه من القيم التربوية التي تدرسونها لأبنائكم في المدارس، ولا ما تباهيتم به من قوانين.
أتذكر يا توماس، ما قلناه حين كنّا معاً في مؤتمر باريس، وقد أخذتنا أنت إلى ضواحيها لنرى الأمكنة التي يعيش فيها أبناء دول المغرب العربي، وأبناء الدول الأفريقية، والظروف المهينة التي تحيط بهم، أما قلت لنا: هذه هي نتائج ثقافة الاستعمار، وحصيلة سنوات العذاب والظلم والقهر! الآن، أسألك: أين قولتك تلك؟ أين حديثك عن الحرية، والإنسانية وحقّ الأحفاد، الذين قتلتم أجدادهم وآباءهم، في أن يعيشوا بكرامة، وفوق أرضهم، من دون ترهيب أو إخافة!؟ توماس، أيها الشاعر والمسرحي، ما زلتم حتى الآن تطاردون الأحفاد بالقهر والخوف والموت، وما زلتم تؤيدون قادة الاحتلال الإسرائيلي بالمواقف الرعناء، منذ 75 سنة، وأنتم ترون المذابح والمجازر التي اقترفها ويقترفها منذ مجزرة دير ياسين وحتى مجزرة مشفى المعمداني قبل أيام.
توماس، ما يحدث الآن في قطاع غزة وعموم الأراضي الفلسطينية، هو ما حدث لنا، قبل ثورة المعلومات ومنذ 75 سنة، إنه مسرحية دم وقتل وظلموت فوق أرض بلادي فلسطين، بلاد سيدي المسيح الذي نادى بالمحبة والسلام، مسرحية أبطالها أنتم، وهذه الكيانية الإسرائيلية التي أقمتموها بالقوة الباطشة، والقوانين المزيفة، والكذب الجهير، وقد رأيتم الجرائم والمجازر والمذابح التي اقترفها الإسرائيليون بحقّنا، طوال 75 سنة، ولم تحرّكوا ساكناً، لا بل زدتم تجاهلكم جهلاً، وغطيتم عيونكم كي لا تروا نزيف جروحنا، وسددتم أذاناتكم كي لا تسمعوا صراخنا العالي، بأننا نموت قهراً، ومع ذلك ظللتم تُهرعون مرّة بعد مرّة كي تقفوا إلى جانب الإسرائيلي النازي الجديد الذي جعلنا، رغماً عنا، نعيش طيّ المجازر في كلّ مواجهة.
ما يحدث اليوم، يا توماس، من ذبح وتهجير وخوف، عرفه أجدادنا وآباؤنا، ونعرفه نحن وأولادنا وأحفادنا أيضاً، وهي مسرحية من دم، وأحزان، وبكاء، وخوف، وموت لأنّ المحتل الإسرائيلي يريد لنا شيئاً واحداً هو الإبادة الجماعية، تماماً مثلما حدث للهنود الحمر، وأنت تعرف أن الغرب، كلّ الغرب، شارك في إبادتهم!.
توماس، ولأنني أعرف حساسيتك الأدبية، أسألك ما فائدة الآداب والفنون والقوانين التي أنتجتموها، وفي كلّ بلدان الغرب، إذا كنتم تُهرعون لنصرة النازي الجديد الإسرائيلي المحتل القاتل الذي حوّل بلادنا الفلسطينية إلى محرقة، إلى سجن، ونادى بثقافة الموت لكلّ فلسطيني، ولكلّ قرية فلسطينية، ولكلّ مدرسة، ولكلّ معبد!.
توماس، قل لي برأيك، كيف تشعر بطعم القهوة، وأنت ترى الدم الفلسطيني على عتبات البيوت، وفي المشافي، وفي الشوارع، والمدارس، والمعابد، والحدائق، والملاجئ!.
قل لي يا توماس، أهذه هي صورة حضارة القوانين والمؤسّسات ومنظمات حقوق الإنسان، أهذه هي صورة الأمم المتحدة، وصورة الكتب، واللوحات، والمقطوعات الموسيقية، أهذه هي صورة القصائد التي كتبها شعراؤكم، أهذه هي الحرية التي ناديتم بها كي يصير الفرح ابتسامات للأطفال، وكي تصير القيم صورة لسلوكيات الناس.
قلبي مألوم، وموجع، يا توماس، لأنّ هذه الكيانية الإسرائيلية ما كان لها أن تبقى فوق أرضنا مدة سنة واحدة، وليس 75 سنة، لولا دعمكم، وبعد كلّ ويلات هذا الاحتلال الإسرائيلي التي عشناها، تريدون لنا أن نتحلّى بالصبر وضبط النفس، ومن أجل ماذا؟ ألكي نموت بهدوء ترضون عنه! لا.. يا توماس، فقدر الضوء أن يطلّ مهما احلولكت الظلمة.
Hasanhamid55@yahoo.com