النقد الاحتمالي في الشعر السوري المعاصر.. رؤية جديدة
بدا واضحاً من خلال القراءة النقدية لكتاب “النقد الاحتمالي في الشعر السوري المعاصر” للناقد والشاعر مفيد خنسة والتي قدّمتها جمعية الشعر في اتحاد الكتّاب العرب، بالتعاون مع جمعية النقد من خلال الناقد د. عبد الله الشاهر والشاعرة خديجة الحسن، أن هذا الكتاب حرك المياه الراكدة في مجال النقد، وخلق حوارات ونقاشات كثيرة بين الحاضرين وصاحب الكتاب الذي قدّم رؤية جديدة في النقد الأدبي حين طبق على الأدب والشعر نظرية الاحتمالات، وهي نظرية في الرياضيات مكوّنة من مجموعة مرتكزات أساسية تربط الاحتمالات الهامشية بالاحتمالات الشرطية.
باب جديد
وبيَّن الشاهر أن قراءته للكتاب إضافة بسيطة تعريفية وليست بحثية من خلال توضيح مفردات النقد الاحتمالي للحضور واطلاعهم على تعريف خنسة للنقد الاحتمالي: “هو منهج نقدي يعتمد الأسلوب المنطقي في توظيف شتى أنواع العلوم والمعارف لفهم العلاقات القائمة والمحتملة بين مكوّنات العمل الفني الإبداعي جمالياً وفكرياً، وإعادة صياغتها برؤية شمولية واستخلاص قيم معيارية”، ورأى أنه بناءً على هذا التعريف الذي اعتمده خنسة وحدّد فيه منهج نقده من الناحية النظرية قام في الكتاب بإسقاطه على نصوص شعرية لمجموعة من الشعراء. وأوضح الشاهر أنه في التطبيق وجد أن خنسة قام بتقسيم نص القصيدة إلى ستة فروع، وكل فرع من هذه الفروع الستة قسمها إلى شعاب رئيسية وشعاب ثانوية، بحيث تغدو كلّ جملة من جمل القصيدة شعبة من تلك الشعاب، ثم حدّد كل فرع من هذه الفروع عقدة، وهذه العقدة تُعتبر نقطة التوازن في القصيدة، ثم بحث في المعنى لكلّ جملة من جمل النص الشعري في سياق بنية التراكيب، ليدرس بعد ذلك علوم البلاغة “المعاني والبيان والبديع في كل فرع من الفروع”. وبيّن الشاهر أن الجديد في هذا المنهج هو محاولة الربط بين علم اللغة وعلم المنطق وعلم الرياضيات، وخاصة جبر الأحداث والمجموعات والاحتمالات، وهو وفق ما يرى خنسة في كتابه أنه يفتح باباً جديداً للاستفادة من قوانين الاحتمال في الربط بين الأحداث البسيطة والمركبة، أي دراسة القصيدة من وجهة نظر احتمالية، وهذا يفتح باباً للربط بين جبر الأحداث وجبر المجموعات وجبر القضايا وبالتالي جبر اللغة، مؤكداً أن الكتاب يحتاج إلى الكثير من التنقيب.
الشاهد الملك
وأشارت خديجة الحسن في قراءتها إلى أن الناقد والشاعر مفيد خنسة يقترح في كتابه منهجاً نقدياً سمّاه “النقد الاحتمالي”، وهو يستند في ظاهره على منجزات علم الرياضيات ونظرية الاحتمالات، مؤكدة أن هذا الكتاب جاد ومستجد ويغري القارئ بمتابعة قراءته، فهو يقدّم فيضاً من إبداع الشعراء السوريين ملحوقاً بتعليق مؤلف هذا الكتاب، والذي دأب على نقد تلك النصوص وفق منهجه الجديد، كما حلل في الدراسات التطبيقية النص الشعري ونقّب عن مظاهر الجمال في طياته، وأفرز الاستعارات والتشابيه والمحسّنات والصور، وقام بإحصائها في كلّ قصيدة وجزئية، وأنها كقارئة للنص النقدي وجدت أنه خاض بشكل مفصل في كتابه في شرح النص الشعري المدروس، ورأت أن الإسهاب والإطالة يُذهب متعة القراءة والاكتشاف، مع تأكيدها أن الكاتب استطاع أن يقدّم منهجه التحليلي الرياضي بسلاسة: “كان يصدح وراء السطور صوت الشاعر المتخفي وراء أستاذ الرياضيات وليس العكس كما كنتُ أتوقع”، وأنها توقفت بإعجاب عند مناقشته الفرق بين الواقعية والواقع، مستعيناً بعلم الإحصاء وتفنيده لمصطلح الواقعية المتداول، ومن ثم تقديمه تعريفاً بديلاً أكثر إقناعاً، في حين خالفتْه كقارئة حين بيَّن في كتابه أن المبدأ الاحتمالي يجعل الصورة أقرب إلى التصور والفهم، انطلاقاً من قناعتها أن المتلقي هو الشاهد الملك في هذه القضية وللقارئ كامل الحرية في اختيار التصور الذي يروق له من كل الاحتمالات، كما عبّرت في نهاية كلامها عن تبنيها لقول الكاتب في الكتاب: “تناقض جوهري يكمن في إقحام المنطق الرياضي في فهم الشعر، وربما يرفض البعض الأمر شكلاً ومضموناً”، مكرّرة في الوقت ذاته ما جاء على لسان الكاتب: “أرجو أن يكون النقد الاحتمالي إضافة حقيقية في ميدان نقد الشعر العربي الحديث ومساهمة حيّة لتطوير الفكر النقدي العربي”، متمنية أن يأخذ هذا الكتاب طريقه إلى النقّاد والقراء العرب لأنه غنيّ ويعكس جهداً كبيراً جديراً بالتقدير.
آلة قانونية للتفكير
وشكر الناقد والشاعر مفيد خنسة في نهاية الندوة التي تخلّلتها نقاشات حول الكتّاب المشاركين واتحاد الكتّاب العرب على الاهتمام لما قدّمه في كتابه، وبيَّن أنه كان يتمنى أن يناقش الكتاب دون التركيز على جزئية واحدة “عدد الاحتمالات” فيه لتصبح هي المحور كما حدث في الندوة، موضحاً أن الكتاب يريد أن يقول إن النقد الاحتمالي هو آلة قانونية للتفكير في تناول الفن عموماً والشعر بشكل خاص، لأن كل فنّ من الفنون يحتاج إلى مصطلحات ومفاهيم وتراكيب، موضحاً أنه اعتمد في منهجه على العديد من الأسس التي أوردها في الكتاب وهو الذي حاول فيه أن يقارب بين علم اللغة وعلم المنطق وعلم الرياضيات وطرح مجموعة من الأفكار من خلال ذلك، مؤكداً أن السؤال الأساسي الذي أراد أن يطرحه في الكتاب هو: هل يمكننا أن نستفيد من الرياضيات في الشعر؟ ونستفيد من النظريات العلمية في ميدان علم اللغة؟
وكان خنسة قد نوه في مقدمة الكتاب بتجارب شعرية مهمّة لشعراء لهم حضورهم في الشِّعر السوري المعاصر، واقتصار كتابه على الشعراء الذين اختار لهم قصائد لا يعني إهمال غيرها من القصائد أو التجارب، مؤكداً في الوقت نفسه أن القصائد المختارة تعطي صورةً حقيقيةً عن الشِّعر السوري الحديث، وأنه حرص في اختياره على أن يكون الشعراء من أجيالٍ مختلفة، وأن تعتمد القصائد الوزن الشّعري، أي قصيدة التفعيلة أو القصيدة التقليدية ذات نظام الشطرين، مبيناً أنّ منهج النّقد الاحتمالي لا يهدف إلى تصنيف الشّعراء، بل يهتمّ بإنشاء الأحكام وكيفية إنشائها كلمات، وهنا الإعجاز في اللغة برأيه.
يُذكر أن الندوة عُقدت بإدارة مقرّر جمعية الشعر أ. جهاد الأحمدية ومقرر جمعية النقد د. هيثم غرة، وحضرها أدباء ونقاد قدّم عدد منهم مداخلات حول النظرية التي طرحها مفيد خنسة في كتابه الذي يقع في 446 صفحة من القطع الكبير، ويتضمن عشرَ دراساتٍ لعشرة شعراء سوريين معاصرين.
أمينة عباس