رأيصحيفة البعث

في ابتذال مفهوم “القواعد الأساسية للإنسانية!”

أحمد حسن

في 7 تشرين الثاني الحالي، وعلى خلفية مجريات “طوفان الأقصى”، بعث رئيس الكيان الصهيوني، إسحاق هرتزوغ، رسالة إلى رؤساء الجامعات والكليات الأميركية، قال فيها “على المحكّ الآن، ما إذا كان العالم المستنير سيدافع عن القواعد الأساسية للإنسانية، أو سيختار قبول انتهاكها، بل حتى دعمها”.

بالطبع لا يقصد الرجل في رسالته هذه “القواعد الأساسية” للإنسانية التي “قوننها” العالم بعد حروب عالمية كبرى في ميثاق الأمم المتحدة المعروف، لأنه، و”كيانه” المارق، يمثلان أكبر تعدّ عليها وخرق لها في هذا العالم بأسره وسط صمت مدوٍّ، وتلك مفارقة لغوية، وتغطية كاملة من “العالم المستنير” – الذي يقصده هرتزوغ – عن هذه الجريمة الكبرى سواء في لحظة ولادة فكرتها الأولى منذ أكثر من قرن، أم لحظة تحققّها منذ نحو خمسة وسبعين عاماً، أو في التغطية الحالية على “أكبر عملية إبادة شهدتها الحروب الحديثة، وهي تجري مباشرة على شاشات التلفزيون”.

بهذا المعنى، فإن “جملة” هرتزوغ هذه تندرج تحت بند الاستخدام المجرم، والمجرّم، للغة وتطويع مفرداتها بما يخدم السفاح في عمله، وتلك حالة لا تقتصر على هذا القاتل، فها هي صحيفة “عربية” – وتلك مفارقة لغوية أيضاً! – تحاول تبرئة الإدارة الأمريكية من تبعات جرائمها في المنطقة، في هذه اللحظة تحديداً، فتقول، أي الصحيفة: إن “إدارة بايدن تعمل في سورية” – و”العمل” هنا ساتر لغوي لمفردة الاحتلال – “على موازنة الجهود لردع المسلحين دون إثارة صراع أوسع في الشرق الأوسط”، وإن “هذه السفن الحربية والطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع الجوي وإحضار المزيد من القوات إلى الشرق الأوسط تندرج في هذا الإطار”، منكرة بذلك حقيقة ساطعة تقول إن هذه “الإدارة”، ومن سبقها، منغمسة حتى أذنيها ليس في توسيع الصراع في المنطقة فقط، بل في إشعاله من الأصل، حين غطّت المجرم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأممياً أيضاً، لأهداف معروفة وتتناسب عكساً مع “القواعد الإنسانية الأساسية” الحقّة.

والحال فإن “القواعد” ذاتها كانت أمام ابتذال لغوي مخاتل أيضاً في يد مراوغ مكشوف مثل السلطان العثماني الذي “استعرض” كلامياً هذه “القواعد” في إطلالاته الأخيرة، مشدّداً على أن بلاده ستعمل على محاسبة “إسرائيل” على المجازر البشعة التي ارتكبتها في غزة، وعلى تحريك ملفّ امتلاكها أسلحة نووية، وبغض النظر عن “اكتشافه” المبهر و”الجديد” لامتلاك إسرائيل أسلحة نووية، فإن إصراره الكلامي على محاسبتها تكشّف فعلياً عن تزايد التبادل الاقتصادي معها إلى ثلاثة أضعاف حجمه العادي خلال شهر المجازر البشعة هذا، كما أن استخدامه في السياق ذاته، وفي زيارته لألمانيا تحديداً، مصطلحاتٍ ذات طابع ديني لوصف الصراع ليس إلا استثماراً خاصاً به في حرب زعامته الدينية، السلطوية، على العالم الإسلامي وإضراراً في الوقت ذاته بالقضية الفلسطينية وحرفاً لها عن مسارها الحقيقي باعتبارها صراعاً بين مجرم وضحية، بين محتلٍ ومحتَل، بين حق ساطع وباطل أسود تجرّمه كل “قواعد” الأرض وشرائع السماء.

خلاصة القول: على مسار موازٍ للمجازر الإسرائيلية البشعة والتغطية الغربية المجرمة، وبعض العربية والإسلامية، عليها، تُرتكب مجازر لغوية أخرى تستهدف السيطرة على ناصية الحق في صراع وجودي كهذا، وهذا أمر مفهوم في سياق الحروب جميعها، لكن المؤلم فيه أن ينحدر بعض أهل الضحية، المفترضين، إلى تبنّيه، خوفاً أو جهلاً أو استغلالاً لمجد هنا وصورة بطولة هناك، وتلك ثالثة الأثافي على ما قالت أمثالنا القديمة، لكن إذا كان للباطل جولة فإن للحق صولة، و”الطوفان” أصدق إنباء لأنه سيجرف في طريقه، الآن أو في جولة أخرى قادمة لا ريب فيها، كل هذا الكذب والابتذال.. والأيام حبلى.