الفنان أنور الرحبي.. لوحته تتهادى بين شرقياته وبين الحروفيات التجريدية المستحدثة
فيصل خرتش
إنَ لوحة الفنان أنور الرحبي تتهادى بين شرقياته وبين الحروفيات وتكوينياته التجريدية المستحدثة، واكتسبت خصوصيتها من خلال المعالجة الهادئة والخطوط الرشيقة التي تصوغ الموضوع بمهارة مدفوعة بالألوان الأنيقة. وقد أقام الفنان عدَة معارض منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ونال عدَة جوائز تقديراً لجهوده.
ورغم أنَه لم يخضع لدراسة أكاديمية، لكنه كان يطوَر نفسه، وقد أخذ يتلاعب باللون منذ دراسته الأولى، لأنَ اللون كان يثيره ويشكَل مساحات من المعرفة، وهذا يعود إلى البيئة التي أنبتته، وعندما شارك في مسابقة (شنكار) في الهند فاز بالميدالية الذهبية على أطفال العالم، هذه الجائزة شجّعته على أن يشارك في المعارض المحلية، وقد استمد موضوعاته من البيئة الفراتية التي استطاع أن يجسّدها بالألوان المائية وعالجها بجرأة.
أنور الرحبي من مواليد دير الزور عام 1957 جاء إلى دمشق ودرس الفن في مركز أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية، وتخرَج فيه عام 1971 حيث تعرّف على الأساليب الأكاديمية في الرسم والتصوير، بالإضافة إلى الدراسات النظرية التي أسّست لديه المعرفة النظرية، إضافة إلى حضوره المعارض الفنية.
في البداية درس في كلية الآداب- قسم التاريخ في جامعة دمشق، وتابع النشاط الفني، ثمَ أخذت نشاطاته تظهر عبر المعارض الفنية، بالإضافة إلى أنَه كان ينشر في الصحف والمجلات المحلية والعربية أخبار الفن التشكيلي والفنانين، وكان يحبّ التصوير المائي، ويبدي اهتماماً به، وهو يستخدم الألوان الشاعرية، واللوحة لديه تعتمد على المشاهدة البصرية عبر مفردات تراثية وكتابات بالحروف العربية في تكوينات مستحدثة، إنَه يخلق جملة من التشكيلات بالإضافة إلى مساحات لونية تخضع إلى المؤثرات الغرافيكية، ثم يضيف كتابات مرسومة بخطوط عربية متحرّرة، استطاع أن يتوجّه بها إلى تكوينات مبتكرة ليمنح العمل الفني إيقاعاً تشكيلياً حيوياً، واستمرت تجربته إلى الثمانينيات وشكَلت رافداً متدفقاً تألَق فيها كثيراً، ولكن سرعان ما بدأت المرأة تظهر في أعماله، بالإضافة إلى لوحات ذات مفردات تراثية، تتمحور في اللوحة وتزينها بالزخارف الجميلة، إنها توحي بنساء ألف ليلة وليلة، لذلك سمّاها (شهرزاد) التي تجمع بين الفتنة والحكمة، إنها تنتشر بالأردية الفضفاضة والزخارف الفراتية، وعلى جبهتها حروف عربية ذات إيقاعات متباينة، ويجللها باللون الأخضر تارة، وأخرى يوشَحها باللون الخمري الذي ينبعث منه الضوء، إنَها أغنيات لشهرزاد وعشتار وأفروديت اللواتي استلقين في مخيلته ولم يغادرنها، لتصبح المرأة هي البطل الحقيقي في أعماله، إنَها الحياة والحبُّ، وهي الملهمة لذلك الإبداع، لقد حاول أن يصنع منها صورة أكثر قدسية، إنها تشكَل الإضاءة الحقيقية في الموضوع الذي يتناوله بما تضفيه من الـتألق، وقد جاء انشغاله بموضوعها ليشمل مساحة كبيرة من أعماله الفنية، وباتت اللوحة تحفل بملامحها الشرقية في خضم الرقش العربي الذي أخذ ينسحب على مفرداته التقليدية ليتماهى في صياغات معاصرة تطرّز سطح اللوحة بإيقاعات بصرية مستحدثة، لقد تحوّلت اللوحة عنده إلى أسطورة من تراثنا الشرقي بأدوات فنية معاصرة، وأعطت الفنان فرصاً ليبوح فيها ببعض ما لديه من ثقافة فنيّة وثقافات أخرى، ولعلّ الألوان الداكنة التي انشغل بها الفنان هي التي أعطته بعداً جمالياً إيحائياً يستمدّ مقوماته من البيئة مشحونة بالأساطير والحكايات.
شكلت الذاكرة سلسلة من المشاهد التي انصبّت في لوحته لتمنحها الحضور عبر لغة فنيَة مبتكرة، اللوحة عنده عبارة عن خطوط ثم ألوان وأخيراً الموضوع، وهذا التعايش يتمثَل بالسطو على الواقع، وعلى عالم الجمال الشعري، وقد قدَم قصيدة لونية لشهرزاد ولشهريار، فيها ينثر اللون مباهجه إضافة إلى الوعي الفكري والاحتفالي، فيها يتمّ كسر الشكل التقليدي للعمل، وهذا ما يزيده قوَة وجمالاً.
أخذت الأشكال تميل إلى التبسيط والاختزال في لوحته، منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وأصبحت اللوحة مسرحاً لأشكال إنسانية ذات ملامح شرقية، كما في لوحة (الانعتاق) فيها حشد من الكائنات البشرية وقد وضعت في قوالب مضغوطة، وهي ترتدي الأزياء الشعبية، وتحيط بها مساحات لونية قاتمة، وفي المربع العلوي الذي يضمّ مجموعة بشرية تحاول الخلاص، إنها تتوجّه عبر اللوحة لتنطلق في تحررها، عبر مساحات لونية مضيئة، لقد أسفرت عن أجسادها المغمورة بالألوان المضيئة.
شكلت هذه المرحلة انعطافاً واضحاً لدى الفنان، فتحرّر من ذاكرته واتجه نحو ثقافته وطموحه في صياغة لوحة تكشف لنا الفكر المتجدّد عبر الوسائل التعبيرية المستحدثة، وتبدو اللوحة وكأنها إحدى منجزات التجريديين، لأنها تعتمد على المساحات التي تتناوب في تأثيراتها البصرية على نحو بنائي مدروس بعناية، بينما تكون الأشكال داخل هذه المساحات في صياغات شديدة الاختزال لتكون بمضمون إنساني، لقد أراد الفنان أن يصل إلينا في حالة فنية مستساغة يبتعد فيها عن المباشرة والزخرفة المجانية.
انتقلت اللوحة عنده من الرومانسية المباشرة إلى التعبيرية، اختصر الأشكال والألوان في تدريجات متنوعة، ولوحته (كلمات) فيها يندمج العاشق وإنسان مسكون بحلم اليقظة والبوح الرقيق مع الكلمات وتقاسيم الجمال، والبيئة المكانية العامرة بهمس الأحبة، إنها اللوحة/ القصيدة، فيها دخول معمَق وموفق لفنان امتلك حساسية التذوق الجمالي في مسلك الشعر والفن التشكيلي.
والمرأة هي البؤرة المركزية التي تشدّ إليها كل التفاصيل، تبني جسراً معبَداً بحركة الخطوط وشفافية اللون مع جمالية الفكرة، وتمثل المعنى الرمزي لحوارية الفنان مع الشاعر، والعنصر النسائي يكرّسه لشعرية التوزيع البصري، ومقامات لونية تنسج قصة الأنثى/ الحلم المندمجة مع وجدانه الشاعري، وقد تكرس جمال القصيدة/ اللوحة في مشاهد بصرية من نوع مبهج، وتؤكد على حساسية الفنان الجمالية.
أخذ الفنان أنور الرحبي يميل إلى الاختزال في أعماله، فقد صوّر البيت الشرقي مفصحاً عن ألوانه وتشكيلاته العفوية التي تستند إلى خبرته في استخدام اللون المائي، باعتباره مادة تصويرية قادرة على احتضان نزوات الفنان وطموحه، غابت العناصر السابقة خلف بيوت رسمها في عتمة الذاكرة تطلّ أبوابها ونوافذها عبر إضاءات خافتة لتحدث إيقاعاً بصرياً يومض في المخيلة أسراراً ومواقف إنسانية لا تضاهى، وتحوّلت اللوحة من السرد الحكائي إلى السرد البصري الذي يبحث عن القيمة التصويرية الموحية، عبر مفردات محدودة ومشحونة بالقيم الشعورية الكامنة.
أنور الرحبي:
حصل الفنان على العديد من الجوائز منها: ميدالية كارل ماركس بألمانيا- جائزة في تجمع فارنا في بلغاريا- جائزة المفتاح في مدينة الحمامات بتونس- الجائزة الأولى في معرض فناني دمشق- الجائزة الأولى في ملتقى التصويرـ مسقط- الجائزة الأولى لتصميم الغلاف- معرض الكتاب في تونس.