المرحومة حرم المرحوم!
غالية خوجة
كيف استقرّ في اللا وعي الاجتماعي مفهوم التبعية المؤنثة للمذكرة؟ للتخلّص من التبعية لا بدّ من وعي حرّ يبدأ بإضاءة شمعة في الأعماق، ليتغيّر التفكير التبعي، وتنضج الحيوية لاستيعاب البديهيات، ومنها أن الله خلقنا أحراراً إناثاً وذكوراً، وأتينا إلى هذه الحياة فرادى وكذلك نغادرها فرادى.
ولا تقلّ أهمية الإنسان المؤنث عن أهمية الإنسان المذكر في الشرائع السماوية والأرضية والمنتوج الإنساني الحضاري، خصوصاً، حق الحياة والعمل والمواطنة، ولا فروق بينهما إلاّ بالعمل المضيء والمفيد للإنسان والمجتمع والوطن.
والغريبُ المستغرب أن نجد الغالبية ما تزال تعتبر المؤنث ضلعاً قاصراً أعوج تابعاً، لمن؟ للمذكر الناضج سلفاً! والمتفوق سلفاً! والمتحرّر من كل عوامل التبعية! حتى لو كان هذا المذكر مجرد مذكر فيزيقي!.
المعيار السيّئ ينتج نتائج سيئة بلا شك، وطريقة التفكير العوجاء تنتج مفاهيم ذاتية ومجتمعية أكثر اعوجاجاً، خصوصاً، وأنها تورّث كأعراف ظالمة وتقاليد مظلمة.
والمؤسف حتى الفجيعة، أن تكون هذه المعايير السوداء سارية المفعول، وأدوات اجتهاد وقياس ويقين، في الحياة والممات على حدّ سواء، لأن تاء التأنيث ونون النسوة والتاء المربوطة توضع، بمفهوم عنصري ما، في مقام أدنى من واو الجمع والجماعة المذكرة ليس فقط في الحياة، بل في الممات أيضاً!.
ومن لا يصدّق ليستمع إلى تشييع الجنازات المؤنثة التي لا تعرف من هي المرحومة وكأنها إنسان مبني للمجهول، نكرة، منكرة، بلا اسم ولا وجود ولا كينونة، خصوصاً، عندما يعلو الصوت القائل: الفاتحة إلى روح المرحومة حرم فلان، أو حرم المرحوم، أو ابنة فلان، أو ابنة المرحوم!!.
من المضحك المبكي ما يجري حتى هذه اللحظة، وما بعدها، لأن الأغلبية الساحقة لا تعرف لماذا تسري الجنازات في الشوارع حتى تصل إلى المقبرة؟.
إنها مناداة لطلب الرحمة والمغفرة، وعبرة للأحياء ليتذكروا أن الموت أساس والحياة عابرة، فيغيّروا مفاهيمهم المظلمة وأعمالهم السيئة، لعلهم يتمرؤون بالجنازات العابرة، لأنهم سيكونون، ذات لحظة، عابرين في جنازاتهم إلى قبورهم الأخيرة، وبكلّ تأكيد، منهم المنادي لطلب الرحمة للمرحومة التي يسألها الخالق باسمها واسم أمها يوم الحساب لا باسم زوجها أو أبيها أو أخيها!.
ولمن يدّعي أن المتوفاة “حرمة” وتتطلّب الستْر حتى في الموت فلا يذكر اسمها، لأنها “محرمة” أكثر منها إنساناً، فليطلع على سيرة سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وماذا كانت تفعل أمهات المؤمنين، ولاسيما عائشة رضي الله عنها التي كانت نموذجاً للعلم والمعرفة والأدب وموسوعة الإجابات في كافة المجالات، وكانت خيمتها أشبه بمجلس علم وأدب، لأنها موقنة بالسنّة القائلة “لا حياء في العلم والدين”، وليتذكر “مريم” عليها السلام وسورتها التي كرمها الله بها.
وضمن هذا المجال، نتساءل عن الجهات المسؤولة عن تصحيح هذه الأفكار النازحة عن إنسانية الإنسان، واستقلاله الكينوني بشريعة الخالق، لأن من “سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة”.
لذلك، لا بدّ من توعية مجتمعية للتخلص من الأفكار الضبابية، ومنها التمييز العنصري الجنسوي المترسّب في البُعد المجتمعي الذي يسمح لنفسه بمحاسبة الإنسان على الطبيعة الفيزيقية التي خلقه الله بها مؤنثاً أو مذكّراً، ولا يفعّل العقل والوعي والأخلاق والمفاهيم الإيجابية للذات والعائلة والمجتمع والمستقبل، ليدرك أن الخالق هو الوحيد المخول بالمحاسبة والجزاء بعد شهادة أنفسنا علينا “وكفى بنفسك اليوم عليك حسيباً”.