مجلة البعث الأسبوعية

جوقات روحيّة فلسفيّة بمجازات كونية موسيقية

البعث الأسبوعية- غالية خوجة

تتسم روحانية العارفين بانتشارها الأفقي والعمودي والحلزوني في أعماق الذات، وآفاق السماء، وفضاءات هذا الكون.

ولا تتوقف هذه الحالة على المتصوفة والشعراء والفلاسفة والعلماء والمفكرين والفنانين التشكيليين والموسيقيين والمعماريين لأنها تصيب البعض من العامة، والفرق أن الفئة الأولى تكتبها لغوياً ولونياً وإيقاعياً وبنائياً، ضمن حالاتها المتجلية، بلغة هي من لغتنا وليست من لغتنا في الآن ذاته، فهي من لغتنا لأنها من أبجديتنا، وليست من لغتنا لأنها تولي اهتماماً بالدلالة والمدلول نسقياً ورمزياً ومعرفياً واحتمالياً ونسقياً وانزياحياً وسيميائياً مما يجعل فقه المعنى متوالداً إلى ما لانهاية بطريقة لا يصل الجميع إلى شبكاتها المتحلزنة المتداخلة المتشابكة والمتغيرة بهيئة الثبات، فتكون أقرب إلى الخاصة، لأن وظيفتها التوصيلية، باختصار، ليست المألوفة المعروفة.

ارتحالات التجليات

 

وضمن هذا النسق يطالعنا ـ تمثيلاً لا حصراًـ شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي والسهروردي والحلاج وابن الفارض والنفّري وأبو يزيد البسطامي وابن عربي محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي، المولود في مرسية 1164م، المؤلف لـ800 كتاباً لم يصلنا منها سوى 100 فقط، والذي أمضى حياته رحالة في الأرض والكشف والمشاهدات والشطحات، وعمل كاتباً، وقاضياً، ومعلماً، والملفت أنه ألمّ وهو في العاشرة بقراءات القرآن الكريم السبعة، والمعاني والإشارات، وظهرت العلامات الروحانية عليه في سن مبكرة مما دفعه للاستغوار في أنوار الكشف، ومطاردة رؤاهُ بدءاً من دواخله الذاتية والنفسية والوجدانية العارفة، عبوراً بالمغرب والمشرق، ومن أهم منعطفاته نذكر لقاءه في تلمسان بالشيخ العارف بالله القطب الغوث أبو مدين شعيب.

وشكّل الارتحال المستدام محوراً معرفياً لأغلب العارفين، وأبرزهم ابن عربي الذي شغلته حلب فترة، لكن دمشق كانت محطته الأخيرة ومجلسه العلمي الأخير، فتوفي فيها عام 1240م، واحتضن قبرَه وجامعه جبلُها قاسيون، وظلت آثار حكمته ممتدة عالمياً، وتأثر به الكثيرون، وكتب عنه المستشرقون ومنهم الإسباني د.ميغيل أسين بالا سيو الذي تحدث كثيراً عن تأثيراته شعراً وتفكيراً على ملحمة الإيطالي دانتي أليغيير، كما اعتبره الفيلسوف الإسباني ادوارد سوبيرات من أهم المفكرين المؤثرين في الثقافية الإسبانية.

شعاعيّة الخيمياء

اتسمت لغة العارفين بنوع من الغموض، قد تكون أقرب إلى التشكيلات السوريالية والدادائية والتجريدية والرمزية المتشاكلة معاً وذلك على صعيد الفن، وأقرب إلى جماليات الشعر المتفرد الناتج عن معادلات إبداعية فنية فلسفية موسوعية مثقفة تشتمل على باذخ الفنيات المتشبّكة بين اللغة والمخيلة وعلوم النفس والطبيعة وخيمياء البصيرة، كما أنها لا تبتعد عن هارمونية ذاتية مجتمعية كونية متشاكلة بين الكونشرتو حيث الدور الرئيسي في هذا الصنف الموسيقي للآلة والفرقة مرافقة، والسوناتا وقالبها الموسيقي معروف بأليجرو وتعزفها الآلات وهي مقطوعة بحركة واحدة، والكانتاتا المقطوعة المرتكزة على الصوت البشري، والسيمفونية التي يشبه شكلها السوناتا لكن وتمتد لأربع حركات وتتسم بالأوركسترا، لنجدنا نسبح معها في عوالمها العميقة وكأننا موجتها الظليلة الأخرى التي تتدرج ألوانها تبعاً لطاقة كلّ منا، فنرسو مثل الأسئلة على جبال المفردات، ونحلق عقباناً في فضاءات تظل قيْدَ الاكتشاف.

وهذا ما فعله ابن عربي أيضاً، فكتب بلغة انتهجت التساؤلات وتداخلت فيها رمزيات فلسفة التصوف برمزيات تصوف الفلسفة، مؤكداً على الاعتلاء الروحي وتناغم الإنسان مع وحدة الوجود، لدرجة الزهد المؤدي إلى الفناء، لأن البقاء لله وحده جل جلاله، مختزلاً الأبعاد في بيت شعري فلسفي حكيم: “وتحسب أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر”، معتبراً البرزخ حالة من فلسفة المسافة الزمانية والمكانية غير المحسوسة، الأقرب إلى الفلسفة الكونية الميتافيزيقية الرمزية التأملية، الجاذبة إلى الدلالات اللغوية دلالات أخرى متمحورة حول جوهريّة المحبة ومفهومها النوراني الذي يوحّد الإنسانية بنبض واحد: “لقد صار قلبي قابلاً كل صورة، فمرعى لغزلان ودير لرهبان، وبيت لأوثان وكعبة طائف، وألواح توراة ومصحف قرأن، أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني”.

وانطلاقاً من هذه الصورة والهيولى، نلاحظ كيف اعتمد المحبة وبوصلتها الأخلاق محوراً إنسانياً وقيمة حضارية، وانتماء شفافاً لضوء الحكمة الإلهية وحقيقتها الأزلية ووحدة الكون المتعايش بذراته ومكوناته بتناغمية أبدية تجمع فصوصه الموجودة واللا موجودة بانسجام شعاعي.

ويواصل الشعاع الواصل الفاصل بين العالمين المادي والمجرد رمزيته المتماوجة، فلا مكان ولا زمان ولا بصر ولا أسرار، بل استشفاف البصائر والسرائر، اختزلتها إشارة ابن عربي: “الإنسان الكامل صافي الفطرة”.

فقه المعنى وفلسفة الروح الكونية

ولعلها تلك الفطرة التي كتب عنها الشاعر النوبلي “إيليتس” قصيدته “له المجد” التي نقرأ بعدة طرق منها القراءة الأفقية، والعمودية، والمعمارية المتشكّلة بهيئة معبد تجمع بين الإنسان ككون طفيف والكون الكلي ككون كثيف، وربما هي ذاتها التي كتب عنها الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري “رسالة الغفران” تاركاً ظلال روحه معشّشة على أغصانها، مرفرفة بين رحلاتها، تلك التي تأثر بها “دانتي” بين فصوله المؤلّفة من الجحيم والفردوس والمطهر.

وينعطف إلى هذا المجاز الكوني الكثير من الموسيقيين والفنانين المهندسين والحرفيين والفنانين التشكيليين عبْر العصور انطلاقاً من الرسوم الأولى للإنسان على الأشجار وجدران الكهوف والمغارات والجبال، عبوراً بالحقب اللاحقة، وصولاً إلى عصرنا الحالي، سواء كانت لوحات على جدران الكنائس وأبرز فنانيها مايكل أنجلو، أو جماليات في المساجد وفنيات خطوطها العربية، وهندستها الخاصة للمحاريب والمنابر والساحات، أو على المعالم الأثرية، ومنها آثار سورية وما تعكسه من تعاشُق روحاني بين الخط العربي وتشكيلاته، والزجاج الملون ووظائفه الإضائية، والزخارف والنقوش والتشكيلات الهندسية الخشبية والحجرية والرسومات المختلفة للكائنات الحية، ودلالاتها الراحلة بين الفناء والبقاء، وهذا المدار يشمل الأعمال الفنية المتنوعة بقسميها: الإيقاعية الدلالية، والفراغات الإشارية.

الإيقاعية الدلاليّة

وأول هذه الإيقاعية الدلالية هي تلك التكوينات المرتبطة بدلالات روحية مباشرة تتجسد بالفضاء الرابط بين السماء والأرض مثل لوحة العشاء الأخير للفنان ليوناردو دافنشي واعتمادها على لحظة حاسمة بين الظلمة الفكرية والنفسية والمجتمعية والطبيعية ـ “الليل” من جهة تكوينية ما، والنور ومدلولاته الباطنية الذاتية والمجتمعية والسماوية من الجهة التكوينية الأخرى، وكذلك بين الموت والحياة وما بينهما من صراعات ومتضادات ومتناقضات يحسمها الشعاع القادم من النوافذ كبُعد خارجي، والشعاع النابض من الطمأنينة الذاتية لشخصيات اللوحة وانعكاسها كظل من ضوء يقيني داخلي.

 

أمّا موسيقاها المخفية، فهي حركة قابلة للقراءة تبعاً لحالة كلّ متلقٍّ منا، وهي الموسيقا التي قد تكون حاضرة أو غائبة كما قال الموسيقي الإيطالي جيوفاني ماريا بالا المقتنع بوجود مقطوعة موسيقية مخفية في اللوحة بإيقاع لحني (3/4)، تبعاً لاستنتاجاته من رسم دافنشي لمجموعات مؤلفة من 3 أشخاص في هذه اللوحة.

وتقترب من هذه الدلائل الدلالية وإيقاعيتها بوضوح لوحات ومنحوتات ومجسمات تربط بين الإنسان والسماء والأرض مثل الأعمال الفنية الخاصة بالمولوية، وشخصياتها التي تدور مع الرومي كذاكرة أسّيّة لها، فتظل في دورانها المعاكس لعقارب الساعة، المنسجم مع دوران الكواكب والنجوم، لتتوازن الأعماق بإيقاعات تنفّسية تنبع من المحور الباطني للروح والعقل والقلب والكون منشدة: “مدد…مدد”، متحركة بدورانها الثابت والمتحرك، ونشيدها ببطء يتسارع ويتسارع لينهي فصلاً ويبدأ آخر، بتناغمية بين الرئيس والأجنحة والمعاونين والناي والنأي وشعلة المعرفة والمكاشفة، ولهبها البارد يردد مع الرومي: “مذ قطعت من الغاب وأنا أحنّ إلى أصلي”.

ومن تلك اللوحات، أذكر لوحة المستشرق الفرنسي جان ليون جيروم التي رسمها عام 1895 مجسداً أحد طقوس المولوية، وعربياً، لوحة “الدراويش” للفنان المصري محمود سعيد التي رسمها عام 1929، وتشع شخوصها بنور داخلي غارق مع الصفاء الممتد من العيون المغمضة ظاهرياً، المفتوحة على الأعماق الذاتية والكونية باطنياً، المنبعثة مثل موسيقا التخلي آنَ التجلي، وهذا الآن ما يزال متواصلاً في الدوران التصويري الروحي بين إضاءة المكان والفضاء ونور الدراويش ودورانهم المنسجم مع دوران الذات والكون.

وسورياً، الكثير من أعمال الفنانين ومنهم عبد المحسن محسن خانجي، وبديع جحجاح، اللذين عملا على المولوية كمجموعات تشكيلية، فتميزت دراويش خانجي بأسلوبيته المنغزلة بألوان الترابي الصلصالي واللازوردي المختبئ تحت الموج وبين الغيوم والأحمر النابض بالمحبة، والتطعيم بالنحاس وأشعته وأشعة القمر الفضية وأشعة الشمس الذهبية والبيضاء والأرجوانية، مع محاولة شخصياته الفردية والجماعية المؤنثة والمذكرة الخروج من المكان الواقعي وكتلة اللوحة ومن أبعاد الجسد إلى عوالم الداخل التي ترنّ مع أعماق الفضاء الكوني اللا نهائي وهي تنشد مع الكواكب والأجرام والمجرات: “اسقِ العطاش تكرماً”.

وكذلك، تميزت أعمال جحجاح رسماً ومجسمات ومنحوتات وجداريات وإكسسوارات على إيقاعات رمزية (ألف ـ نون) ودلالاتهما الممتدة بين الألف ونقطة النون، وتكويرية الحركة المشعة بمشروعه رباعية (أفلا): تتفكرون، تعقلون، تتذكرون، تدّكرون، لتكون مشروع تفكير متسع يكمله مشروع همزة (أفلا) المحلقة مع حالة السجود وتداعياته التأملية، إضافة لمشروعه حبق، وبين دوران درويشه الأول عام 2010، ودرويش ملاك بأجنحة، ودرويشته الأخيرة عام 2023، يغوص في فنون الروحانيات ونقائها الأبيض والأزرق المتدرج والخشبي كلون ومادة ولون المعادن ومنها النحاس، لتشع نبضاتها بالمحبة والياسمين الدمشقي والنقاء كعامل محوري تلتقي فيه المولوية، تلك التي وبصلةٍ مفاهيمية ما، تقترب من هذه العوامل لوحات اليوغا وتوزيعاتها للطاقات الإيجابية بين الذات والطبيعة والعالم، بينما نصاها المرئي واللا مرئي ينشدان: “يا إمام الرسل ياسندي، أنت حبيب الله ومعتمدي”.

أيضاً، تنضم إلى هذه الجوقة، لوحة زنابق الماء للفنان كلود مونيه وما تضيئه من حالة تأمليّة تفكّرية تستنطق الطبيعة بمشهد من الماء والأشجار والزنابق الملونة والسماء والأوراق المنتثرة على سطح الماء، وكأنها تعزف مقطوعة فالس الدانوب الأزرق التي ألّفها يوهان شتراوس الابن عام 1866، ولربما، نسمع من هوامشها قصيدة جبران خليل جبران “أعطني الناي”.

فراغات إشاريّة

أّمّا ثانيها فهو تلك الأعمال التي لا ترتبط بالدلائل والدلالات الروحية مباشرة، بل تتضمنها بطيفية ما، مشكّلة منها فراغات إشارية، مثل لوحة سيلفادور دالي “إصرار أو ثبات الذاكرة”، وما تشمله من كنايات عن مرور الزمن الداخلي وتحولاته الكونية، وما يرادفها من موسيقا أشبه بقصيدة الشاعر ت.اس إليوت “الأرض اليباب”، وما نصغي إليه من موسيقا أقرب ما تكون إلى أول مقطوعة موسيقية أوغاريتية منوّتة بعلامات موسيقية على رقيم طيني “نيغال”.

بينما تبرز لوحة الموجة العظيمة في كاناغاوا للياباني هوكوساي كصراع بين العوامل الطبيعية والذاتية مع الانتباه إلى حضور النور القوي بعد انكسار المركب كذات ووسيلة عبور من أجل الاستعداد لمرحلة الهدوء بعد العاصفة، وكأنها تعلو وتهبط مع الموسيقا الملحمية “الأوديسا” لليوناني “فانجيليس”.

 

ولا تبتعد لوحة إدوارد مونش “الصرخة” عن هذا التكاشف المتصارع بين الذات والكون وفلسفة الضعف والقوة، واستزراع الصوت في الفضاء لتصل الإجابة الإلهية السماوية مع هذا الهول الرهيب من الوحدة والجسر والماء، وكأنها تتحايث مع سيمفونية بيتهوفن “ضربات القدر”.

بلاغة تشكيلية معمارية

ولو انعطفنا إلى فنون العمارة، لوجدنا كيف ينبض الشرق بحيويتها الفنية وجمالياتها المولوية وصفائها العرفاني، سواء في أماكن العبادة، مثل المساجد ومنها الأموي بكل من دمشق وحلب، والكنائس ومنها كنيسة السلام بدمشق وكنيسة مار الياس واللاتين بحلب؛ أو الأسواق القديمة والحصون والقلاع والأسبلة وبيوت السكن والخانات والقناطر والواجهات والنوافذ والشرفات والتيجان والأفاريز والمشربيات والبوابات والعواميد والمدارس والأضرحة، وجميعها تتمتع بفنيات روحية صافية تجذب الشفافية الإنسانية إلى الشفافية الطبيعية ببلاغة تشكيلاتها الحجرية والخشبية والمعدنية الهندسية والزخرفية والنقشية ورسومات كائناتها النباتية والحيوانية ورمزياتها وألوانها الشمعية والصفراء والبيضاء والسوداء، وخطها العربي بين آيات قرآنية وقصائد وحكم وتأريخ، وزجاجها المعشق الملون المدروس بدقة ليستمر الضوء في الظهور، إضافة إلى الهندسة البيئية التي تحافظ على العديد من المزايا الهامة ومنها تجديد الهواء، وتثبيت درجات الحرارة، وهذا بكل تأكيد ناتج عن بلاغة روحية معرفية علمية إنسانية مثقفة حضارياً، وعارفة بصائرياً، لتنجز جمالياتها العارفة بالذات الفردية والمجتمعية والمكانية وكأنها مولوية متواصلة ببنيتها السطحية والعميقة تظل تدور مع إيقاعاتها الشفافة الكثيفة بهارمونية مع إيقاعات الأرواح وهذا الكون المتسع إلى ما لا نهاية.