أوروبا بحاجة لاكتشاف روحها
عناية ناصر
تواجه أوروبا عاصفة ليس من محيطها أو أجزاء أخرى من العالم، بل من داخل القارة نفسها، ولهذا يتعيّن على أوروبا أن تتوقف عن النظر إلى حالة عدم اليقين التي تحيط بالعالم، وأن تركز بدلاً من ذلك على التأمل الذاتي. بعد عام من انتصار زعيم يميني في إيطاليا، اختارت هولندا، الدولة المؤسّسة الأخرى للاتحاد الأوروبي، الزعيم اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، وبذلك يمكن القول أصبح “التحول إلى اليمين” تقريباً اتجاهاً سياسياً لا رجعة فيه في أوروبا.
وتعدّ معاداة الهجرة سمة بارزة لهذا الاتجاه، حيث أظهرت الاضطرابات الأخيرة في دبلن بأيرلندا تزايد استياء الناس تجاه المهاجرين بشكل مستمر، الأمر الذي يشكّل خطر انزلاق أوروبا إلى عاصفة صراع الحضارات. ومع مرور أقل من سبعة أشهر على انتخابات البرلمان الأوروبي، فإن صعود قوى اليمين، واليمين المتطرف سوف يستمر في تعزيز التشكيك في أوروبا، وهو ما قد يؤثر على نتائج الانتخابات.
وعلى الجبهة الاقتصادية، كانت فرنسا عاملاً غير مؤكد والآن ألمانيا، التي هي العمود الفقري للاقتصاد الأوروبي، حيث تقدّر العديد من المؤسّسات الاقتصادية أن ألمانيا قد تكون الدولة الوحيدة بين الاقتصادات العالمية الكبرى التي تعاني من الركود.
لقد أدى ارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية، والضعف الاقتصادي، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، إلى تفاقم القلق داخل الاتحاد الأوروبي، حيث جعلتهم القضايا الداخلية داخل الاتحاد الأوروبي مرتبكين إلى حدّ ما عند مواجهة القضايا العالمية. ولذلك تناقش وسائل الإعلام الأوروبية ضرورة إعادة تقييم سياساتها تجاه الشرق الأوسط، وكيفية التعامل مع صعود الصين، خاصةً وأنه لا يوجد اتجاه واضح بشأن ذلك. إضافة إلى كل ما تقدّم، يواجه الاتحاد الأوروبي، الذي يقف على مفترق طرق، تحديين متشابكين:
الأول: هو عدم وجود تحديد واضح للوضع الذاتي رغم أن الاتحاد الأوروبي يشعر بأن موقفه قد تغيّر وسط تغيّرات كبرى في مختلف أنحاء العالم، إلا أن الاعتراف الحقيقي بالمشكلة يبدو غائباً، حيث يحافظ العديد من السياسيين في الاتحاد الأوروبي على موقفهم المتغطرس، لكن الأسس التي تدعم غطرستهم تضعف تدريجياً.
الثاني: هو أن قيادة الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، على الرغم من إدراكها للقضايا التي تواجهها، إلا أنها لم تعد تمتلك قدرات أقوى في اتخاذ القرار والحكم، حيث تراجعت القدرة على دمج وتوحيد الطبقات الاجتماعية المختلفة في أوروبا بشكل كبير، كما أدّى تبني الشعبوية إلى تشويه عملية تنفيذ السياسات، ولا يمكن لزعماء أوروبا إلا أن يلجؤوا إلى إلقاء اللوم والشكوى على العوامل الخارجية، وصرف الانتباه عن التناقضات الداخلية.
ولمواجهة التحديات الشديدة التي تفرضها الولايات المتحدة، تحتاج أوروبا، باعتبارها لاعباً عالمياً بالغ الأهمية إلى اتجاه واضح لتعزيز قدرتها التنافسية، إضافة إلى أن فهم موقفها شرط أساسي لتحديد الخطوات التالية لأوروبا.
تحتاج أوروبا إلى ثورة في الروح، والأولوية المباشرة لهذه الثورة هي أن يكون لديها فهم دقيق لموقفها، وألا تظلّ غارقة في مجدها وغطرستها الماضية. ولن يتسنى لأوروبا أن تحدّد ما ينبغي لها أن تفعله، وما يتعيّن عليها أن تفعله، وما الذي يمكنها تحقيقه إلا من خلال معرفة موقفها.
تمثل قمة الصين والاتحاد الأوروبي المقبلة في بكين الشهر المقبل فرصة كبيرة لإقامة علاقة أكثر وضوحاً بين الصين والاتحاد الأوروبي وسط حالة من عدم اليقين العالمي، ويتعيّن على الجانبين معالجة قضايا محدّدة لتعزيز التعاون وإرساء الأساس لمزيد من بناء الثقة المتبادلة، وذلك لأن المزيد من التعاون بين الجانبين سوف يفيد الاتحاد الأوروبي في اكتساب شعور بالاتجاه نحو التنمية.
إن احتضان التيار المحافظ تحت تأثير قوى اليمين واليمين المتطرف ليس هو الحلّ، وإن إعادة اكتشاف الروح الأوروبية تنطوي على ديناميكيات الانفتاح والشمولية والمنافسة.