ثلاثية “لا بد” من الحياة والكتاب والموت
غالية خوجة
لأول مرة أشارك في المعرض الدوري الخاص بكتّاب حلب، وأعرض بعضاً مما يتوافر لديّ من إصداراتي السابقة التي شردتْ بين الطاولة والأرفف مثل مجموعاتي الشعرية (محواذه، أنشودة الظن، عاشقة التخلي، الملحمة المجنونة)، وكتبي النقدية (أسرار البياض الشعري، إيقاعات المختلف، هكذا تكلم الصلصال)، وقصتي الموجّهة للأطفال واليافعين (فتاة التفاحة)، وروايتي الصادرة حديثاً عن اتحاد الكتاب العرب (ماذا لو مات الموت؟).
وعبْر تجربتي مع الكلمة وذاكرتها ومخيلتها واحتمالاتها ومتغيراتها، اكتشفت أنني من قوم الشعراء المتسكعين في المجهول مع المجهول، المنجذبين لعشبة خلود جلجامش، وقيثارة هوميروس، وأنشودة نيغال الأوغاريتية، وطائر الفينيق الأسطوري، وجدّفت مع القصيدة إلى الأكوان وحوافها، وأبحرت في لا وعي المعنى القادم من كلّ فجّ عميق للرؤى، وغصت في أزمنة اللغة الترابية والهوائية والمائية والنارية والفراغية والموسيقية، ومزجت اللحظة بكتابي “أسطورة الزمان”، وهمتُ بين التخلي والتجلي، بحثاً عن الخلود.
وطبعاً، كان ذلك منذ بدايات ولادتي من الشعر كأب وأمّ روحيين، وما زلت واثقة بأول آية كريمة “اقرأ”، لذلك، أسقي اللغة العربية بدمي الذي تسكنه منذ مشيئة فعل الكينونة الذي خلقني الله منه، ونتبادل التحليق إلى أن ندخل بوابة الموت التي لن تفتح كنوزها إلاّ لكل صادق أمين كما تقول روايتي الأخيرة، فتتوهج جواهر المعرفة من الكتب التي قرأناها وسنقرأها، وهنا، لا بدّ من كلمة “اصبرْ” المنسوجة مع “اثبرْ”، لنكتشف أن لكل رحلة في ثقوب الكلمة البيضاء والسوداء عالم مبصر، متغيّر، متحول، مبهر من شدة الإضاءة.
لكن، ورغم كلّ هذه المدارات المتداخلة، والسفر في فضاءاتها، والهطول إلى أعماق الذات والآخر واللغة والكون، يشعر الإنسان منا، بأنه ما زال بحاجة لبصائر فائضة بالسرائر، لتمسك بيد الأسرار وترفرف مثل الفراشات الممسكات بعطر الضوء حتى الموت.
ولأنه لا بدّ من الحياة لأن “كنْ” اختارتنا، فلا بد من “موت” نتمناه مضاء بآثارنا الروحية المترسبة في الكلمات، تلك الأشدّ نصاعة وإشراقاً، لتمتزج مع تربتنا الأخيرة، فنكفّن الزوال الأبدي ببياض أبدي ناتج عن مدارات أعمالنا الحاضرة في السجلّ الأبدي، أي أنه لا بدّ من الكتاب الكريم القائل لنا: “اقرأ كتابك كفى بنفسك عليك اليوم حسيباً”، وما في هذا التعبير الإعجازي من حكمة، تبدو بمفهوم ما دالة ودليلاً على حرية الذات وأفعالها، وحرية حكمها على ذاتها بحرية أيضاً، فنكون الخصم والحكم في الآن ذاته على أنفسنا، لكن، بعدالة الصدق والأمانة واليقين.
وما بين ثلاثية “لا بدّ” المتأرجحة بين الحياة والكتاب والموت لحظة واحدة هي كل الزمن لكلّ منا، وهي كل اللغة القولية والسلوكية، وهي الفناء والبقاء معاً، وهي “البرزخ” لأهل المعرفة والمعارف، وروح الأبجدية المزهرة بالمحبة البصيرة، وفلسفتها الفقهية للمفاهيم، تلك التي يعرفها كل إنسان بيقينه الفطري، النقي، الشفاف الأبدي الذي قد يكون شخصية من شخصيات روايتي القارئة للرقيمات، ومنها رقيم شمّل وتدمر وشهيدها خالد الأسعد، ورقيم الحضارة الباحثة معي ومعكم في أعماق الوجود الفراغي الباحث عن آثاره وحاضره في كتاب المعرفة وعلم الروح ورقيم المستقبل.