لا أحد يعرف ماذا يريد.. ماكرون وسياساته المتخبطة
هيفاء علي
من وجهة نظر محلّلين فرنسيين، ما من أحد يفهم موقف فرنسا إزاء الشرق الأوسط، وأن ماكرون سوف يكون في غضون أقل من شهر قد حقّق الإنجاز المتمثل في التمسّك بالمواقف غير القابلة للتوفيق بين الغرب والعالم العربي، من خلال محاولة إخفاء هذا التمسك بمبادرات سياسية مفككة تماماً. وشبّه هؤلاء المحللون سياسة ماكرون الدبلوماسية بعلبة من “الشوكولاتة” لا يعرف المرء أبداً ما الذي سيحصل عليه.
فقد قصد ماكرون فلسطين المحتلة يومي 24 و25 تشرين الأول 2023، أي بعد مضي أكثر من أسبوعين على العدوان على غزة، وبعد كلّ الزعماء الغربيين، حيث أبرز الموقف الفرنسي حينها بأصالته المتمثلة في “الدعم المطلق لإسرائيل”، المتوافق مع “الدعم الكامل” من الأميركيين. وكما هي الحال مع بقية الدول الغربية، دافع ماكرون عن حق الدفاع عن “الدولة اليهودية”.
وتبقى الحقيقة برأي المحلّلين الفرنسيين أن إيمانويل ماكرون لم يكن يتمتّع بدهاء الولايات المتحدة، التي أعلنت الدعم الكامل “لإسرائيل”، والتي أوضحت لنتنياهو يمكن أن تتسامح معه أو لا تتسامح معه كعمل انتقامي. وهذا ما يفسّر تأخر “السلطات الإسرائيلية” في بدء عمليتها للسماح بإجلاء جزء من السكان. كما أنه لم يقلد شولتز الذي اختار الإصرار على المساعدات الإنسانية وعلى الرهائن، الذين قال إنه يجب إطلاق سراحهم دون قيد أو شرط، إذ لم يجد لـ ماكرون اللحظة المناسبة لتنظيم مراسم وطنية للشعب الفرنسي الذي مات في “إسرائيل”.
لقد تمّ طرح مسألة الرهائن كمجال للتفاوض مع إدراكه أنه كان في النهاية يسير على خطا جو بايدن، حيث حاول ماكرون أن يبرز موقف فرنسا من خلال إطلاق مبادرة سياسية في 24 تشرين الأول، لكنها فشلت تماماً: “تحالف دولي ضد المقاومة الفلسطينية”، على غرار نموذج التحالف المناهض لـ”داعش”، من خلال مكافحة تمويل الإرهاب أو من خلال تبادل المعلومات. هذا الاقتراح، الذي لم يتمّ التنسيق فيه مع الولايات المتحدة، ولم يصدق عليه القيصر، كان لديه كل ما يثير غضب الدول العربية التي تعتبر حماس حركة مقاومة، ما أجبر ماكرون على التراجع بعد 24 ساعة بالعودة إلى شيء أكثر كلاسيكية: “مكافحة الإرهاب بشكل عام، والمساعدات الإنسانية، واستئناف المناقشات السياسية، بهدف إعادة إطلاق حلّ الدولتين”. وفي محاولة منه لدحض الاتهامات بازدواجية المعايير فيما يتعلق بالتحيز لصالح “إسرائيل”، وعد ماكرون من مصر بتقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين.
بالنتيجة، أدّت إعادة التوجيه الجديدة للسياسة الفرنسية إلى إرسال سفينة مستشفى من البحرية الوطنية، تونير، لدعم المستشفيات في غزة، ولكن سرعان ما أدرك المحللون أن السفينة المذكورة يمكن أن تستوعب 70 سريراً، منها 19 سريراً طبياً فقط.
وفي وقت لاحق، في 27 تشرين الأول، سعى ماكرون إلى إبعاد نفسه عن بقية الاتحاد الأوروبي، الذي ناقش مسألة وجهة المساعدات بشكل مطول قبل الدعوة إلى توقف مؤقت في تسليم المساعدات الإنسانية، من خلال الدعوة إلى “هدنة إنسانية” لإعادة إطلاق “عملية سلام حقيقية“. الفرق في الطبيعة بين “التهدئة” و”الهدنة” ليس واضحاً، إلا أن الأمر لم يكن يتعلق بالمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، ومع ذلك، فإن وقف إطلاق النار ليس هدنة إنسانية، فالأولى هي بوضوح أكثر تقييداً للحكومة الإسرائيلية، وبالنسبة للعالم العربي، بدا ذلك شكلاً من أشكال الدعم لنتنياهو.
وبدلاً من الحديث عن تحالف مناهض للمقاومة، أعلنت فرنسا أيضاً عن “تحالف إنساني مع العديد من الدول الأوروبية”، بما في ذلك قبرص واليونان، وهو ما يشكّل مفاجأة جديدة في الأجندة الفرنسية. بالنسبة إلى وزارة الخارجية، فإن موقف ماكرون مؤيد للغاية “لإسرائيل”، لذلك خرجت عدة مظاهرات أمام السفارات الفرنسية في تونس وإيران ولبنان.
وهكذا كتب نحو عشرة دبلوماسيين مذكرة مشتركة أعربوا فيها عن أسفهم للتحول المؤيد “لإسرائيل” الذي اتخذه ماكرون منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، نشأت موجة مماثلة من التمرد داخل وزارة الخارجية الأمريكية، حيث طالب الدبلوماسيون جو بايدن بالدعوة إلى وقف إطلاق النار.
وبحسب المحلّلين، وراء هذا التنصل، هناك ست سنوات من ازدراء الإليزيه لموظفيه الدبلوماسيين، توّج بإصلاح إداري أدى بكل بساطة إلى إلغاء السلك الدبلوماسي، ودمجه في هيئة المديرين العامين للدولة، ونزعة معينة من النظام المنسوب إلى ألان جوبيه، وزير الخارجية الفرنسي السابق، بمعنى أن يبتكر الرئيس وحده في زاويته. وهكذا، فقد سبق أن أبدى ماكرون قدراً من الابتكار خلال رحلته إلى لبنان، في آب 2020، بعد انفجار مرفأ بيروت، من خلال تقديم خطة لحلّ الأزمة السياسية تقوم على قمع الطائفية. وبحسب المعلومات، فإن فكرة التحالف المناهض للمقاومة طرحت على متن الطائرة من قبل سفير مقرّب من الرئيس الذي أيدها على الفور دون تشاور مسبق.
ومن الواضح أن هذا التحول 180 درجة عن “الدعم الذي لا لبس فيه” أثار ردّ فعل قوياً في تل أبيب، مما اضطر الرئيس ماكرون إلى الاتصال بنظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، لشرح موقفه. وفوق كلّ شيء، فقد خلق خلافاً مع ألمانيا التي لم تتردّد، في التنصل من الرئيس الفرنسي برفض أي وقف فوري لإطلاق النار لكي تتجنّب، على حدّ تعبير أولاف شولتز، أن تمنح “إسرائيل” المقاومة إمكانية استعادة عافيتها، والحصول على صواريخ جديدة. أما على المستوى الدولي، فسيكون إيمانويل ماكرون قد حقق الإنجاز المتمثل في عدم فهمه أو الاستماع إليه أو دعمه من قبل أي شخص.