الوعي الإستراتيجي
د. خلف المفتاح
في ظلّ الأحداث التي تشهدها منطقتنا بعد حرب غزة، وما يشهده العالم من صراعات تنبئ بتحولات كبرى في المشهد الدولي، من المهمّ قراءة ما يجري قراءة إستراتيجية وليس راهنية تحليلية، وهو ما يجري واقعياً، فثمة حاجة لتشكيل وعي إستراتيجي انطلاقاً مما يجري من أحداث أخذاً في الاعتبار أن منطقتنا العربية تعاني من قصور في هذا الجانب، وتقتصر أغلب الدراسات والتحليلات على الواقع دونما استبصار للمستقبل. ومشكلة الوعي الإستراتيجي أنه يحتاج إلى قدرات متنوعة ومتعدّدة، فالناس في الغالب يميلون للقراءة التبسيطية أو التسطيحية، فتركز على الحدث بمعزل عن السياق العام، وكأنه هو المبتدأ والخبر، وهذا لا يساعد على تشكيل وعي عميق بالحدث ووضعه في مخبر التحليل الإستراتيجي لتكون قراءة الحدث منصة ومنطلقاً لقراءة مستقبلية؛ وهنا تمكن هندسة الحدث بمثلث ذهبي يضم الجغرافيا والتاريخ وضرورات وتحديات الواقع، فعندما يوضع الحدث في هذا المنظور الثلاثي يمكنك رؤية الحدث وتداعياته المستقبلية.
إن أية قراءة إستراتيجية تركز على زمن محدود تكون قراءة ناقصة، ودائماً توصل إلى استنتاجات ونتائج خاطئة. فعلى سبيل المثال، إذا قرأنا ما جرى ويجري في غزة انطلاقاً من السابع من تشرين الأول، وقطعه عما سبق دون النظر إليه على أنه حدث في سياق طويل، بمعنى “هل سرع في حركة أحداث وشكل انعطافاً فيها، أم أنه عمل حالة تباطؤ في سير الأحداث؟”، فكل حدث عبر المسار يقوم بدور سلبي أو ايجابي في شكل وطبيعة النتائج، وبالتالي فإن أي قراءة استراتيحية تعتمد بشكل أساسي على موازين القوى الفاعلة في الحدث واستطالاته، فلحظة تغير موازين القوى هي النقطة التي يجب الانطلاق منها للحدث الذي يعنيك، وهذا حالنا في معركة “طوفان الأقصى” التي كسرت صورة العدو وجبروته في وعينا الجمعي، ما يمهد لمسار جديد وصورة جديدة لوعي إستراتيجي لذاتنا العربية، وتغيير جوهري في صورة العدو لدينا. وإذا قرأنا ما حدث في السابع من تشرين وفق تلك الرؤية، أي موازين القوى والسياق العام، يمكن أن ننطلق من العام 1917 ووعد بلفور كنقطة بداية، أي انهيار الدولة العثمانية وسيطرة القوى الاستعمارية على المنطقة العربية وحصول توازن قوى جديد عنوانه فرنسا وبريطانيا.
النقطة الثانية أن القوة العظمى لا تبقى قوة عظمى، فهذه دورة مسؤول عنها الإنسان، فالتاريخ شهد قوى عظمى ولكنها لم تستمر (الروم والفرس والعرب والأتراك والأوربيون والروس والأمريكان). ونقطة بداية النهاية في الشعور بالعظمة واستصغار الآخرين، وعندها يبدأ من يشعر بضعفه بتعزيز قوته، أما من يعتقد بفائض قوته فسيقتله الغرور عند أول ضربة قاتلة يتلقاها ممن كان يعتقد أنه على درجة من الضعف وعدم امتلاك إرادة التجرؤ على ضربه ومواجهته؛ وهذا ما ينطبق تماماً على ما جرى ويجري في معركة “طوفان الأقصى” مع العدو الصهيوني المغرور والمعتد بجبروته وقوته وصلفه، فـ”إسرائيل” ضربت في اللحظة والزمن الذي اعتقدت فيه أنها في غاية التمكن (قوة عسكرية واقتصادية وعلمية وتطبيع وتحالفات وحكومة يمينية لا تخفي مشروعها في استيطان وتهويد كامل فلسطين، وهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم). ولعلها الضربة التي أخرجت من مخبأ العدو كل ما فيه من حقد وإجرام ولا عقلانية وهستيريا، وأفقدته صوابه وعرته على حقيقته أمام العالم، فقدرتك على كشف عيوب خصمك نجاح إستراتيجي في الإطار العام، ولاسيما في إطار ما شهده الرأي العام العالمي من تحول في الصورة في غير صالح العدو.
إن حالة الغرور التي تصيب بعض الحكام والدول هي اللحظة القاتلة.. هذا ما حدث مع نابليون في روسيا والنمسا ومع أمريكا في فيتنام وكوريا الديموقراطية، ومع فرنسا في الجزائر، وهو ما يجري مع قادة الكيان الصهيوني وشعورهم بغرور القوة والخداع الذاتي، وازدراء الآخر، وخطابهم المرتفع من احتلال غزة إلى اجتثاث المقاومة إلى تهجير سكان غزة وتأديبهم واستعادة الأسرى.. نراهم بدأوا بالتراجع وسقوط خطابهم التصعيدي والقبول بالهدنة وتبادل المختطفين والأسرى والمساجين، وربما قبول وقف إطلاق دائم.. كل هذا يجعلنا نقرأ ما جرى ويجري قراءة إستراتيجية لتشكيل وعي جديد يُبنى على قاعدة أن ما جرى في السابع من تشرين الأول سياق في صراع مستمر منذ أكثر من مائة عام، وأنه لحظة فارقة في تحول بنيوي في الصراع سيشكل -إن استثمر بشكل صحيح- عبر موقف عربي داعم وصادق، تحولاً في خريطة المنطقة، ولصالح العرب ومحيطهم، لم يحصل منذ 1400 عام.