ناس ومطارح.. أحمد البحري.. جار القلعة شبيه البحر
ميسون عمران
في كل صباح، مع الشروق تماماً، يلتقط أحمد البحري صورة للشمس تحييّ قلعة مصياف، ويصبّح على الأصدقاء في صفحته، ثم يصبّح على الناس في طريقه إلى محله قرب الباب القبلي. يسير بخفة مبتسماً للجميع. ففي مصياف يكاد يعرفه جميع الناس. فقد أنشأ مع صديقه مضر قبل عشرة أعوام المبرة الإلكترونية كمبادرة اجتماعية ضرورية، وكانت رائدة المبادرات في المنطقة. بناءً على أنموذجها كررها آخرون من عدة مناطق، فكانت وسيلة ليعرف الناس حال بعضهم، وبخاصة المغتربين. استلم إدارتها، ووضع لها أرشيفاً بطريقة مؤسساتية، ورتب صفحة “مصياف في صورة” تعنى بحال مصياف جمالياً وخدمياً كمحتوى يواجه الصفحات الصفراء التي ظهرت حديثاً. لكن ما لا يعرفه كثير من الناس هو ذاك اللؤلؤ في أعماق البحر.. هناك في القلب تترجمه الأصابع المبدعة في عملها.
يصل محله، وغالباً والده أبو مصطفى (حسام البحري) يكون قد سبقه، ليستقبل الأصدقاء من “كبارية” مصياف وريفها. ملتقى للذين عاشوا الثقافة وصنعوها في محيطهم. يفترش العم أبو مصطفى زرقة عينيه لمن يحضر وابتسامة طيبة، أورثهما لابنه أحمد.
المكان ليس كما يبدو من الخارج محلاً للألعاب وصناعة وصلات الشعر والباروكات الطبيعية.. المكان في الداخل أكثر دفئاً من مجرد محل تجاري. يقتسم أحمد المحل مع والده. حيز لألعاب الأطفال، وحيز لعمل حبكات الشعر، وحيز لا يرى! لا يعرفه إلا ذوو الحاجة من الناس.
يحكي الناس عن قسوة الحصار على سورية، كلّ من مطرحه. لكن مطرح مرضى السرطان يبدو من أكثر القصص إيلاماً، فالجرعات لا تتوفر بشكل مستمر، وإن توفرت لا يستطيع فقراء البلاد الحصول عليها إلا بآلام مضاعفة..
ظنّ بعض الناس أن أحمد جزء من جمعية لمتابعة مرضى السرطان، لكنه كان وحده يعمل، وبما توفر من مدخول المحل وحسب! وبعون متواضع من بعض الأيادي الخضراء التي تلبي النداء. وبقدر ما يستطيع، قام أحمد بتأمين جرعات الدواء المفقودة، أو المكلفة، لمرضى السرطان الذين قصدوه، عبر اتصالاته، معارفه، إعلان على صفحته، بكل الإمكانيات التي أتيحت له. وبذات الفترة صنع لأكثر من 138 مريضة سرطان باروكة شعر طبيعي مجاناً.
احتراف الخير يحدث حين يصبح الخير عادة لا ينتظر محترفها شكراً ولا امتناناً.. أمضى أحمد سنيناً يقدم الباروكات لمحتاجيها من عام 2014 وحتى الآن..
كيف بدأ الأمر؟ كيف سار في هذا الطريق؟ هو نفسه لا يعلم كيف وجد نفسه يعمل في هذا المجال، وكأنه أغمض عينيه وترك روحه الواسعة تقوده إلى ما يجب أن يفعله.. ليجد نفسه بداية يعطي من وقته وجهده ودخله لصناعة الباروكات.. ثم وجد نفسه منشغلاً بتأمين الجرعات لمحتاجيها، ثم وجد نفسه يؤمن من دخل المحل لمن لا يستطيع الجرعات.. وعلى نفس الطريق راح يؤمن لمن يقصده وبقدر ما يستطيع عمليات جراحية، إما بدفع التكاليف، وإما بترتيب الإجراءات المطلوبة.
أكثر ما يفخر به هو أنه لم ينتق من المحتاجين، لم يفرزهم، لم يفكر لا بطائفة ولا بمذهب، ولا بحزب.. مدّ يده للجميع.
وأكثر من أثّر به، طفلة بمتلازمة داون، عانت من ثعلبة في رأسها، جعلتها صلعاء. فصنع لها باروكة.. لم يكن ينتظر شكراً منها، لكنها شكرته وبطريقتها. ففرحها البالغ حين شاهدت نفسها على المرآة، وهي تتلمس شعراً حقيقياً على رأسها، كان فرحاً لأحمد، وأغلى من شكر.. وكلما أتت لزيارته من قريتها البعيدة، تطير نحوه، لتستقر بين ذراعيه اللتين امتدتا لنجدتها، كما فعل مع غيرها..
لا مقابل لما يفعل إلا ما يجعله ينظر إلى نفسه باحترام.. وقد اختطّ لنفسه طريقاً بين مفترقين، فهنالك ربح من عمله يمكنه من رفاهية عالية، لكنها لن تدرّ عليه الصورة الإنسانية التي يريد أن يراها في ذاته، لذلك لم يتردد في اختيار الطريق الثاني.. ليفتح بابه بقدر الإمكان لمن يطرقه.
لا بحر في مصياف.. لكن إنساناً كأحمد يستطيع أن يكون بحراً بسحر قلعة..