التصنيع والإنتاج يصنع الفارق بين الاقتصادات العالمية
ريا خوري
يتمّ ترتيب دول العالم اقتصادياً حسب الناتج المحلي الإجمالي، كونه القيمة السوقية الإجمالية لجميع البضائع والسلع والخدمات النهائية التي تقوم بها دولة ما من دول العالم بإنتاجها خلال مدة محدّدة، حيث يتمّ تصنيف البلدان وفرزها حسب تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الاسمي من الهيئات والإدارات والمؤسّسات المالية والإحصائية، والتي يتمّ حسابها بأسعار الصرف الرسمية والمعتمدة للحكومة أو للسوق.
لا يأخذ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في الحسبان أو في ميزانه الاقتصادي الفروق في تكلفة الحياة المعيشية في البلدان على اختلاف مذاهبها الاقتصادية، ويمكن أن تختلف النتائج بشكلٍ كبير من عامٍ إلى آخر بناءً على التغيرات الطارئة والتقلبات في أسعار صرف عملة البلد. قد تغيّر مثل هذه التغيرات والتقلبات ترتيب الدولة من فترةٍ إلى أخرى، على الرغم من أنها غالباً ما تحدث فرقاً بسيطاً لا يُذكر أو لا تحدث فروقاً كبيرة في مستوى معيشة سكانها.
مقارنات للثروة الوطنية يتمّ إجراؤها بشكل متكرّر أيضاً على أساس تعادل وتوازن القوة الشرائية، للتكيّف مع الاختلافات في تكلفة الحياة المعيشية في البلدان المختلفة، وكلّ حسب منهجه الاقتصادي. مقاييس أخرى، نصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي المقابل، ونصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي (تعادل القوة الشرائية) تستخدم لمقارنة مستوى الحياة المعيشة الوطني. بشكلٍ عام، أرقام وبيانات تعادل القوة الشرائية للفرد الواحد هي أقل انتشاراً وتوسعاً من أرقام الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للفرد الواحد.
لذا فقد تغيّرت تصنيفات الاقتصادات الوطنية بشكل كبير بمرور الوقت تبعاً لتغيرات الظروف الاقتصادية والسياسية العالمية، حيث تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية إنتاج الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس حوالي عام 1916، والتي بدورها تجاوزت (سلالة تشينغ) أو امبراطورية تشينغ العظيمة آخر ممالك الصين في إجمالي الإنتاج قبل عدة عقود. منذ انتقال الصين إلى اقتصاد قائم على السوق من خلال ما بات يُعرَف بــ(الخصخصة) وإلغاء الضوابط الرقابية المباشرة، حيث شهدت الصين زيادة في ترتيبها من المرتبة التاسعة في عام 1978 إلى المرتبة الثانية في عام 2010، وهذا تعبير واضح وصريح عن تسارع النمو الاقتصادي للصين خلال تلك الفترة، فقد ارتفعت حصتها من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي العالمي من اثنين بالمائة في عام 1980 إلى ثمانية عشر بالمائة في عام 2021 . من بين دول عديدة أخرى، شهدت الهند أيضاً طفرة اقتصادية خاصة بها منذ تطبيق التحرير الاقتصادي في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
في حقيقة الأمر أن تسارع الأحداث العالمية والتغيّرات الجيواستراتيجية باتت واضحة المعالم، وخاصة في غرف الاقتصادات الوطنية، التي تملك طاقات إنتاجية عابرة للحدود، وفي ظلّ الظروف الدقيقة والمعقّدة الذي تجتازه مواد العلاقات الاقتصادية البينية والدولية، ولاسيما قطاعات المال والتجارة والاستثمار العابر للحدود، ووجود رابطة متينة جداً بين القاعدة السلعية العريضة بشكلٍ عام، وبين قيمة النقد الوطني المعتمد للدولة المعنية. في حين تتجه النظرية الاقتصادية العامة في الجامعات والأكاديميات الاقتصادية والممارسة العملية في الغرب الرأسمالي، نحو ضبط وتحجيم أهمية الإنتاج والتصنيع في الاقتصاد المعاصر، وتغليب أهمية وضرورة ودور الاقتصاد الورقي والخدمي في تنشيط النمو الإجمالي، متجسّداً في حصوله على الأرباح الضخمة للشركات الكبيرة العاملة في هذه القطاعات وتحديداً الشركات عابرة القوميات وعابرة الجنسيات والحدود. لذلك فإن التجربة الصينية الغنية تثبت يوماً بعد يوم أن التصنيع والإنتاج المحلي هو الذي يصنع الفارق الكبير، سواء بالنسبة للنمو المتصاعد المستدام أو بالنسبة لتأمين ظهر العملة الوطنية وحمايتها.
فعندما لا تملك دولة ما قطاع تصنيع قوياً ينتج منتجات وسلعاً وبضائع ذات قيمة استعمالية وضرورية، وبالتالي قيمة سوقية تداولية عامة، فإن عملتها الوطنية المحلية تغدو مع مرور الوقت وانكشاف ميزانها التجاري وقوتها الاقتصادية المعلنة تغطي قيمة وارداتها لقيمة صادراتها وتتخطاها، لا تساوي الكثير. وهذا ما دفع السيد سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي للتصريح العلني أمام الصحفيين يوم الجمعة بتاريخ 5 أيار 2023 الماضي على هامش مشاركته في اجتماع مجلس وزراء خارجية منظمة شنغهاي للتعاون الذي عُقِدَ في مدينة جوا الهندية بالقول: “إن علاقة التصنيع تتعلق بقيمة العملة، بالنسبة للروبية الهندية، هذه مشكلة يجب حلّها. لقد جمعنا مليارات الروبيات في حسابات البنوك الهندية الكبيرة، لكن لاستخدام هذه الأموال وتوظيفها على نحوٍ مجدٍ، يجب تحويلها إلى عملة أخرى تكون أكثر وزناً منها، وهذا الأمر قيد المناقشة في هذه الآونة مع الحكومة الهندية”.
كانت الولايات المتحدة الدولة الأولى في العالم في مجال التصنيع لمدة مئة عام متواصلة، ولأنها ضحّت بالتصنيع والإنتاج المحلي الوطني في سبيل قطاعات الصيرفة والمال والخدمات المدرّة للأرباح، فقد وضعت نفسها اليوم في الكثير من المشكلات المعقدة.