اليوم العالمي لإلغاء الرقيق .. تزايد الرق الحديث
د.معن منيف سليمان
يحتفل العالم في الثاني من شهر كانون الأول باليوم العالمي لإلغاء الرق الذي بدأ الاحتفال به في عام 1949، وهو تاريخ اعتماد الجمعية العامة لاتفاقية الأمم المتحدة لقمع الاتجار بالأشخاص. وينصبّ التركيز في هذا اليوم على القضاء على أشكال الرق المعاصرة مثل الاتجار بالأشخاص والاستغلال الجنسي وأسوأ أشكال عمل الأطفال والزواج القسري والتجنيد القسري للأطفال لاستخدامهم في النزاعات المسلّحة.
إن الرقّ ليس من عيوب الماضي الغابر، بل هو ظاهرة لا تزال حتّى اليوم تلوح في أفق كلّ منطقة من مناطق العالم، وربّما حتّى كلّ دولة من دوله. فوفقاً لتقديرات منظّمة العمل الدوليّة، يُستعبد أكثر من أربعين مليون من النساء والرجال والأطفال اليوم، ما يشكّل أكثر من خمسة أفراد من بين كلّ ألف نسمة. واستناداً إلى أبحاث أُجريت مؤخّراً في هذا الصدد، يعدّ ربع الناجين الذين فرّوا من الرقّ المعاصر من الأطفال، وما يقارب ثلاثة أرباع منهم من النساء والفتيات على حدٍّ سواء.
وتخضع النساء والفتيات إلى الاسترقاق الجنسيّ أو العمل المنزليّ غير المأجور، ويجبرن على تحمّل أعباء العمل القسريّ وغيره من أشكال الاستغلال الشديد الأخرى في ظلّ ظروف خطرة للغاية، في الوقت الذي تخضع فيه أسرٌ تعمل في الحقول والمناجم، وصناعة البناء، وصناعة الأغذية والملابس، تمّ استعبادها مقابل ديون تحكّمت بها على مرّ الأجيال، إلى الاتجار، حيث يتمّ تجنيد أطفالها قسراً لاستخدامهم في النزاعات المسلّحة، بمن فيهم الفتيان ككاشفي ألغام أو مقاتلين، والفتيات كضحايا اعتداءات جنسيّة يرتكبها الجنود في الكثير من الأحيان بحقهنّ.
ومن أشكال الرق الحديث غير المعروفة بشكل واسع هو الزواج القسري الذي غالباً ما يشكّل حكماً مدى الحياة بالنسبة للضحية. فالفتيات من الدول المتدنية الدخل هن بالأخص الأكثر تعرّضاً لخطر الوقوع في فخ الزواج القسري، إذ أن ثلثي ضحايا الزواج القسري هن من الإناث، ثلاثة أرباعهن من الفتيات تحت سن الخامسة عشر.
وغالباً ما يشكّل التمييز الهيكليّ عاملاً مساعداً في تعزيز الرقّ المعاصر. وكثيراً ما يتعرّض ضحايا الاسترقاق، بمن فيهم الأطفال، لسنواتٍ وسنوات، حتّى أجيال عديدة، إلى مختلف أشكال التمييز المتعدّدة والمتداخلة التي تعذّرت الدول عن حمايتهم منها، بحيث قد يكون ذلك قائماً على اختلاف النوع الاجتماعيّ ومستوى الفقر والعرق والدين ووضع الشعوب الأصليّة والطوائف الإثنيّة وأصول الرق. لذلك، يتعيّن على كافة الدول أن تتّخذ إجراءات محدّدة لوضع حدّ لأشكال التمييز الضارة للغاية هذه التي تشكّل انتهاكات أساسيّة لحقوق الإنسان، وبالتالي تعرّض الشعوب لخطر الاستغلال وإلحاق الأذى بهم.
وتشكّل النزاعات وانتهاكات القانون الدوليّ الإنسانيّ والإخفاقات في تأمين الحماية القانونيّة والماديّة للمهاجرين مجموعةً من العوامل الهيكليّة التي تساهم في استمرار ظاهرة الرقّ.
وفي هذا السياق، أفادت دراسة مشتركة أجرتها المنظمة الدوليّة للهجرة بالتعاون مع “التحالف 8.7” العام الماضي أن المهاجرين، بمن فيهم اللاجئين، معرّضون، وبشكلٍ خاص، للاتجار بالبشر والاسترقاق في ظلّ ظروف من العنف والصراع شهدتها دولهم قبل انهيارها فعليّاً. وإثباتاً لذلك، تلقّت فرق الرصد التابعة لمفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان مراراً وتكراراً معلومات واردة في هذا الشأن من مهاجرين، لا سيما أطفال، كانوا محتجزين في ظلّ ظروف غير إنسانية ومهينة خضعوا لها خلال النزاع حتّى في أثناء رحلاتهم بحثاً عن مأوى يحميهم من مثل هذه الممارسات.
وتقول منظمة العمل الدولية إن هناك آليات لإنهاء الرق العصري. غير أن النزاعات والأوبئة والفقر تبطّئ إمكانية استخدام هذه الآليات. كما أن العقلية الذكورية ووصمة العار التي ترتبط بالعلاقات الجنسية تعني أن إنهاء الاستغلال الجنسي والزواج القسري سيستغرق بعض الوقت.
لكن الحكومات ليست عاجزة عن وضع حدّ لمثل هذه الممارسات، فهي بإمكانها أن تسن وتطبق القوانين لكي تقضي على أشكال الرق الحديث، بالأخص فيما يتعلّق بالزواج القسري والعمل الجبري الذي تفرضه الدولة نفسها.
أما الأمم المتحدة فقد وضعت لنفسها هدفاً طموحاً يتمثل في القضاء على كل أشكال الرق الحديث، وتعدّ خطة التنمية المستدامة لعام 2030 فرصةً مميّزة لتسريع وتيرة الجهود المبذولة في مختلف أنحاء العالم للقضاء على الرقّ المعاصر.
لذلك، لا بدّ لجميع حكومات العالم من المضيّ قدماً بكلّ عزم وإصرار لوضع حدّ لكافة أشكال الرقّ والممارسات الشبيهة به، فقد حان الوقت الآن، أكثر من أيّ زمن مضى، لتحقيق تقدّم ملموس في هذا الاتجاه، ذلك أن الاسترقاق يعدّ أحد أخطر الانتهاكات المرتكبة بحقّ كرامة الإنسان وأكثرها شموليّةً، ولا بدّ من حظره بشكلٍ مطلق، لأنه يشكّل جريمةً ضدّ الإنسانيّة في ظلّ بعض الظروف المعيّنة. وبالتالي، يشكّل الاسترقاق المستمرّ لملايين البشر اتهاماً يطال كافة مجتمعاتنا، بحيث يحتاج كلّ من أولئك الذين نجوا من هذه التجربة المروّعة إلى الحصول على المساعدة اللازمة للتعافي وتأدية دور بارز في المجتمع.