مسرحية “ضابط ائتمان”.. ومفردات استجداء الكوميديا
آصف إبراهيم
قدّمت مديرية المسارح والموسيقا، مسرح قومي حمص، أربعة عروض مسرحية مهمّة خلال شهر تشرين الثاني الفائت، كان آخرها عرض “ضابط ائتمان” إعداد وإخراج فهد الرحمون عن نص للكاتب الروسي الكسندر فامبيلوف الذي يعدّ تشيخوف القرن العشرين، واستطاع أن يترك بصمة مهمّة في تاريخ أدب روسيا المسرحي بنصوصه الواقعية الساخرة التي تمتح من الواقع مفارقات كوميدية.
فقد كتب فامبيلوف المسرحية القصيرة كمسرحية -عشرون دقيقة مع الملاك عام 1962- ومسرحية -البيت المطل على الحقول عام 1964- كما كتب المسرحية الطويلة ذات الفصول الثلاثة كمسرحية -صيد البط عام 1967- إلا أن مسرحية -الصيف الأخير في تشوليمسك عام 1972- تعتبر تاجاً يوضع فوق كلّ ما كتب فامبيلوف خلال حياته.
تميّزت مسرحياته ببنائها الدرامي وأسلوبها الساخر الضاحك والفهم العميق، والصحيح لمكامن النفس البشرية وبناء شخصيات قوية واضحة المعالم وتمكن تام من صياغة الحوار، وتشهد له مسرحياته براعته في عرض الفكرة وبناء الشكل الدرامي، وعبقرية فذة تنبض بالحياة والأصالة. لكن في عرض “ضابط ائتمان” حافظ المخرج ومعدّ النص فهد الرحمون خلال اشتغاله على تحريف النص وتدجينه محلياً على متانة النص الأصلي وقوة البناء الدرامي فيه، ويبدو أن الرحمون مولع بالكوميديا الواقعية الساخرة التي باتت تشكل ثيمة مسرحية لديه، حيث قدّم العام الماضي ضمن احتفالية أيام وزارة الثقافة السورية، مسرحية “حمام روماني” المقتبسة بحرفيته عن نصّ كوميدي للكاتب البلغاري ستانسلاف سترتييف الذي تتسم مؤلفاته بالمباشرة والبساطة، يقترب فيها مسرحياً من المدرسة التشيخوفية التي تلتقط مفارقات واقعية تشكّل منها عوالم درامية بسيطة في بنيتها التشكيلية عميقة في حواملها الفكرية.
لكننا في مسرحية “ضابط ائتمان” نقف أمام تطور جديد في رؤية الرحمون المسرحية، تطور يقوم على جرأة فجة، أحياناً في بناء عالم مسرحي مبتذل، جرأة تحاكي في أسلوبها المسرح التجاري الذي كثيراً ما يلجأ إلى المفردات البذيئة والحوار العامي غير المنضبط لاستجداء الضحك من الجمهور، بدلاً من خلق المواقف العفوية والمفارقات الواقعية التي تنتزع الابتسامة من المتلقي رغماً عنه.
والجديد أيضاً في عرض الرحمون الحالي هو تجريب أسلوب التغريب البريختي، متأثراً بما يقدّمه زيناتي قدسية من محاولات تتسم بالجماهيرية التفاعلية على مسرح حمص، لكن فكرة التغريب عند الرحمون غير مطروقة سابقاً، وهي إقحام على نصوص لمؤلفين لم يلجؤوا إلى هذا الأسلوب التفاعلي، لكن اجتهاد المخرج لم يحقق أية إضافة درامية للعرض الذي أفرغ النص الأصلي من قيمته الفكرية ورسالته الاجتماعية.
تدور الحكاية حول فكرة الخوف الذي يسكننا من أي شخص مجهول الصفة الوظيفية، ففي العرض مدرّسة تعيّن في مدينة حمص لم تجد لها مسكناً فتلجأ لاستئجار غرفة في فندق، يطرق بابها في إحدى الليالي شاب مولع بكرة القدم تعطل جهاز التلفاز لديه ويريد أن يكمل مشاهدة المباراة، لكن مدير الفندق يدخل عليهما فجأة ويستهجن وجودهما في غرفة واحدة، ويبدأ بإلقاء كلمات اللوم والوعظ عليهما، ويدخل في عراك مع الشاب القادم من دمشق بمهمة يعلم مدير الفندق فيما بعد إن وظيفته هي ضابط ائتمان، ولأنه يجهل معنى هذه التسمية يصاب بالهلع والخوف من الشاب، فيلجأ إلى حيلة التظاهر بالجنون لينجو بنفسه من غضب الضابط المجهول، وهنا يتصاعد الحدث الدرامي وتتكشّف حقيقة كل شخصية، ليعيش الجمهور نحو ساعة ونصف من الصراخ والتهريج، والحوار الأجوف الذي أفقد النص قيمته الاجتماعية والفنية، رغم المجهود الكبير الذي بذله الممثلون في خلق حالة مسرحية بعيدة عن الابتذال والتصنع، دون توظيف لأية عناصر مساعدة، ولاسيما الموسيقا والمؤثرات الصوتية التي غابت تماماً عن العرض، فكانوا أمام مهمّة صعبة تتطلّب منهم تفكيك الشخصية وإعادة تركيبها مسرحياً وفق المفهوم المحلي الذي سعى المخرج لإبرازه شكلاً ومضموناً، بأسلوب الحوار والأسماء والأزياء وغيرها من عناصر فنية. فكان الاتكاء على المبالغة في الصراخ وترديد العبارات الفجة والمفردات البذيئة هي الركيزة الأساسية لخلق حالة تفاعلية مع جمهور غالبيته من الجيل الشاب الذي تستهويه، غالباً، هكذا حواريات، لجأ إليها زياد الرحباني، مثلاً، في معظم عروضه المسرحية، لكنه استخدمها بأسلوبه العفوي الواقعي البسيط، وليس المصطنع كما كان عليه في “ضابط ائتمان”.
المسرحية من تمثيل ندى جوخدار، عز الدين عيسى، آصف حمدان، سارة الأرناؤوطي، ورد العيسى وعلي الصالح.