أنسنة الحضارة وذاكرة مستقبل العمارة
غالية خوجة
كيف تتأنسن الحضارة؟ كيف يستمر التراث المادي واللامادي كحضارة؟ وهل تكفي الثقافة؟
الثقافة بحاجة لوعي ثقافي لتَتفعَّل وتتفاعل وتُفعِّل، وبهذا المفهوم تنبذ كل مدّعٍ للثقافة فكّ أميته المعرفية بقراءة بعض الكتب، وحفظ بعض الجمل ليردّدها مثل الببغاء، بينما سلوكه الحياتي الواقعي يظلّ أنانياً جاهلاً، وذروة اهتمامه محدّدة بهدف ضيّق للغاية، لأن همّه الأول وهاجسه الأخير هو تحقيق مصالح خاصة على كافة الأصعدة!
ولأكثر من ذلك، لن يتراكم هذا البُعد في التراث الحضاري المضيء، بل سيظل فجوة هوائية تخلخل الذرات المبنية سابقاً من الحضارة الموروثة التي بُنيت أساساً على الوعي الثقافي العلمي المعرفي الجمالي الفاعل الموقن ببناء الإنسان أولاً ليصل إلى بناء المكان بإيجابية تنتسج أفعالها مع ذرات الزمان البنّاء، لتبني بشكل مستمر ومتواصل مساراتها التطورية المتراكمة نتائجياً من خلال معادلة ثلاثية الأطراف (الإنسان، المكان، الزمان) متكاملة الانسجام، ترفع خطها البياني إلى الأعلى باحتمالاته الأكثر تكاملية.
وبناءً على هذه الزاوية التبئيرية من المعنى، نلاحظ كيف عكست العمارة أبعاد الحضارة بهيئتها المستدامة عبْر الأجيال، فبنت للقادم، وليس للآني الزائل المسمّى ببعد أحاديّ “الحاضر”، عاكسة طرائق تفكيرها وأساليب حياتها ورؤاها من خلال هذا التراث الحضاري المادي واللا مادي.
وهنا، أتساءل: ماذا لو كان أجدادنا قد امتلكوا ما نمتلكه اليوم من عصر تكنولوجي؟ ترى، ما المفاجآت التي كانوا سيعملون على إنجازها؟
أترك الإجابة لمخيلة كل قارئ، ليستنتج الفوارق الممكنة، وليكمل معي: للأسف، ابتعد الإنسان المعاصر عن فعلية الوعي الثقافي الحضاري الذي كان جوهر السلوك والبناء والإقامة للأجداد وبصيرتهم غير الأنانية والآنيّة، ليتركوا لنا آثارهم الروحية والعقلية والمعرفية والعلمية والفنية والمادية مشرقة ليس علينا فقط، بل على العالم.
وهذه الآثار المضيئة ما زالت تنطق بأصواتهم وضمائرهم الخبيرة بالبصيرة العابرة للأزمنة، وإلاّ لما أصغى التاريخ لمملكة أوغاريت وإيبلا وتدمر، وللقلاع الباقية، مثل قلعتي دمشق وحلب، ولما التفت أحد للأهرامات، وسور الصين العظيم، ومقتنيات متحفي الأرميتاج واللوفر، رغم الكوارث الطبيعية والبشرية، ولما أخبرتنا الحجارة سردياتها عن تلك الحضارة الباقية بمعالمها المتفردة وتفاصيلها اليومية من أدوات مختلفة الخامات والاستعمالات، ومتنوعة الفنون والأداء الحياتي الجمالي، المخزّنة لما لا يُحصى من آثار لا مادية تُفصح وتومئ وتشير للخبراء بالمزيد من الثقافة العميقةِ الوعي، المتجوهرة مع المحاور المقاومة للذات الفردية والأنانية والتخريبية، المنحازة إلى الانسجام بين الأنوات المتناغمة مع أناها وذاتها الجمعية الكبرى التي هي ليست الآنية فقط، بل الأنا والذات الجمعية الممتدة إلى زمننا وما بعد زمننا أيضاً.
والسؤال: كيف يكون الإنسان عموماً، والمعاصر خصوصاً، أهلاً لهذا الموروث العظيم؟ وما الذي سيورثه للأجيال القادمة؟ وما هي الإضافات التطويرية التي ينسجها مع الأزمنة العابرة والمقيمة؟
الحجارة ليست عمارة فقط، والوصول إلى قمة كل شيء ليس النهاية، بل بداية البداية للمحافظة على هذه القمة وتطويرها والارتقاء بها ومعها إلى قمة أخرى، لا تصنعها ذات بعينها، لأن الحضارة فعل مضارع مستمر، لا يمحو فعله الماضي، بل يدغمه، ويدعمه بفعل مضارع مستمر يقبل “سين” المستقبل القريبة التحقق والتحقيق، ويقبل “سوف” المستقبلية الأبعد من ذلك زمنياً، لكنه لا يجيد الرجوع إلى كان وأخواتها، ولا ينتظر “سيناً ممدودة”، ولا تسويفاً أجوف يماطل ليصبح فجوة عليلة، فقط، لأن ساكني اللحظة المعاصرة يتكئون على أرشيف الأجداد، ويتعللون بالظروف التخريبية المخربة، ولا يضعون خططاً منهجية، أساسية، ومحتملة، منتظمة الإنجاز، عبْر الأزمنة القادمة، بأهداف لا تتوقف، بل تكملها الأجيال القادمة، وذلك بروح فريق عمل واحد يدمج الماضي والحاضر والمستقبل في آنٍ معاً، بعيداً، تماماً، عن الشخصنة والشخوص.