المجزرة والسباق إلى مقعد كيسنجر الدمويّ!
أحمد حسن
مات هنري كيسنجر فبدأ السباق الحثيث إلى مقعده – الملطّخ كليّاً بدماء المدنيين رغم كل الزينة الفكرية والدبلوماسية التي عُلقت عليه – وإلى لقبه الأخير “حكيم العالم الغربي” الذي لا يعني بالضرورة ما تحمله صفة “الحكيم” إنسانياً بقدر ما تعني صفة “العرّاب” بحمولاتها الغربية المعروفة، وبينها بالطبع تلك الحمولة الدمويّة التي لا بدّ منها لكل “عراب” ناجح.
هكذا شهدنا في الأيام القليلة الماضية تزايد حالة “الحكمة” بين المسؤولين الأمريكيين، فها هو وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، يجاهر بنصحه “قادة إسرائيل”، حسب وصفه. بـ “ضرورة حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة، لأن ذلك مسؤولية أخلاقية وضرورة استراتيجية”؛ وبدوره لم يتوانَ وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، عن المشاركة في السباق نحو ذلك “المقعد”، فصرّح أيضاً بأنه “من الضروري أن توفّر “إسرائيل” حماية واضحة للمدنيين، ولاستدامة المساعدات الإنسانية في المستقبل”؛ ولأن أحداً ليس أكثر “حكمة” من أحد، فقد انخرطت نائبة الرئيس، كامالا هاريس، في الموضوع قائلة “بينما تواصل إسرائيل تحقيق أهدافها العسكرية في غزة، نعتقد أنه يتعيّن عليها أن تفعل المزيد لحماية المدنيين الأبرياء”.
وللوهلة الأولى، يبدو الأمر جيداً، لكنه ليس أكثر من الجانب “المقبول” بصورة ما من “الحكمة”، فالوقائع المرافقة واللاحقة لهذه “الأقوال” تقول بدورها: إن ذلك كلّه، لا يعدو كونه “تغيّراً في اللهجة، أكثر منه تغيّراً جوهرياً (في الموقف السياسي)”، فالإدارة التي يخدمها كل هؤلاء زوّدت “إسرائيل” بـ 100 قنبلة خارقة للتحصينات، وعشرات الآلاف من الأسلحة الأخرى لاستخدامها في قتل المدنيين في غزة، وبالتالي شهدنا زيادة فعلية في القصف بسلاحَي الطائرات الحربية والمدفعية على السواء، والنتيجة 700 شهيد مدني فلسطيني خلال 24 ساعة فقط، وذلك أمر مفهوم ومبرّر، كيسنجرياً، كما يضمر لسان حالهم، توماس فريدمان، حين يقول: إن “الشرق الأوسط عبارة عن غابة هوبزية، إنها ليست الدول الإسكندنافية”، وذلك، في جوهره، تبرير متأخر لـ “أمثولة” كيسنجر – التي يعمل بها “قادة إسرائيل” وقادة واشنطن معاً – حيث يقول: إنّ “انعدام المقاييس الأخلاقية هو شرط لحرية الإنسان”!
بهذا المعنى، يتفق الجميع هناك في الجوهر، سواء كانوا من المتسابقين على كرسي كيسنجر أم من “قادة إسرائيل”، على ضرب الحاضنة المدنية في غزّة وتدميرها وتدفيعها ثمناً غالياً، لأن “الهدف أن تكوي هذه الحرب وعي الجميع، وأن نعود جميعاً إلى الأحياء التي نسكنها، فلا نجد مساكن نقيم فيها”، كما قال مواطن غزّاوي، وبالتالي ينفرط التأييد الشعبي الطبيعي للمقاومة؛ وتلك أمثولة “كيسنجرية” أخرى بامتياز، فهو صاحب مقولة إن “القضية أهم من أن يُتركَ الأمرُ لشعب تشيلي أن يقرر!”، ليس في شأن عالمي ما بل في نوعية قادته المباشرين، وعبر عملية انتخاب حرّة لكنها لم تعجب “كيسنجر” وإدارته حينها؛ وبالتالي كانت المجزرة التي رعتها واشنطن هناك ودفع ثمنها المدنيون في تشيلي لعقود طويلة، والأمر ذاته في فيتنام، وكمبوديا التي وصف كيسنجر القصف المفرط دون رحمة فيها، قائلاً: “إن أخطأنا فالأفضل أن نخطئ عبر المبالغة في وتيرة القصف لا عبر تخفيضها”!
خلاصة القول.. هذا سباق دموي آخر على مقعد “كيسنجر”، لكنه ككل سباق يحمل مفارقاته الخاصة، فالرجل كان الوجه الحقيقي للنظام الدولي الليبرالي في حالة صعوده، والمتسابقون اليوم إلى مقعده هم وجه هذا النظام ذاته أيضاً، لكن وهو في حالة “انحداره” النسبية اليوم والمتسارعة لاحقاً.
إنها القصة ذاتها، والتاريخ، كعادته، يعيد نفسه اليوم مرة أخرى، لكنها ستكون، وهي كائنة كما نعرف ونتابع جميعاً، على صورة مأساة وملهاة في الآن ذاته، بيد أن المفجع فيها أن المدنيين هم من يدفع الثمن الهائل في كل الأحوال.