الترجمة الأدبية: أصول وفنون وقوالب
البعث الأسبوعية- تمّام بركات
تتعدد المذاهب والاتجاهات النقدية التي تعنى بوضع خطوط عريضة وعامة لأصول الترجمة الأدبية، باعتبارها واحدة من أصعب الترجمات، أو النقل من لغة إلى لغة أخرى، فهي على عكس غيرها من الترجمات العلمية والفلسفية وغيرها من تلك التي تُعنى بالحقائق والمصطلح، وتخضع لسلطان الترجمة الحرفية، تتحرر من العديد من القيود التي تخضع لها الترجمة غير الأدبية، حيث أن شروط ترجمة “كتاب طبي” مثلاً، لا تنطبق على ترجمة قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة، فهذا النوع من الترجمة الأدبية لا يخضع لسلطان اللغة، سواء تلك المترجم عنها، أو المترجم بها، بل أنه يستطيع اللعب على أجمل ما بخصائص تلك، ليوائم هذه اللعب المنضبط، مع أجمل ما في خصائص اللغة الثانية.
ولهذا يلمع نجم مترجم أدبي ما، يستطيع من خلال امتلاكه لمفاتيح المشتغل بالأدب بحرفية عالية، وثقافة غنية، وروح متشبعة بفهم اللغة، أن يقدم ترجمة خلاقة لعمل روائي ما، بروح قادرة على الإحاطة بروح ما يترجمه، وهنا تصبح أمانته ليست في نقل مقولة الكاتب بحرفتيها، بل بإعادة خلقها وسكبها في قالب لغوي أخر مذهل، والأهم متلائم ومحتوى ما يترجمه، ولهذا أيضاً يندر الثقة بالمترجمين الذين يعملون لدى بعض دور النشر المحلية والعربية، بمزاج أقرب ما يكون إلى المزاج الصحفي منه إلى الأدبي، خصوصاً في حال الرواية.
إذا أجرينا مقارنة بسيطة مثلاً، بين ترجمة كل من “سامي الدروبي” أو “أبو بكر يوسف” “صالح علماني” و “أسامة منزلجي” وغيرها من الأسماء ذات الصيت الشائع بين الأوساط الأدبية، وبين العديد من الترجمات الجديدة لرواية مثل “خريف البطريق” مثلاً، والتي يقال أن ترجمة عنوانها خاطئة، حيث الصحيح هو “خريف البطريرك” وهذا أقرب لروح الرواية وطبيعتها، لقدرنا أن نلاحظ هذا التراجع الشاسع لدور المترجم الأدبي، من كونه مبدع أخر للنص الذي بين يديه، إلى مترجم “ريبورتي” يجلس خلف أزارا الكيبورد ويستعين بالقواميس المشهورة، محاولاً المفاضلة بين معنى وأخر.
هكذا بتنا وباتت أجيال جديدة سيئة الحظ، أمام ترجمة نصوص أدبية مختلفة من الشعر والقصة والروايات العالمية، التي لا تبدأ عند “غوغول” مروراً بـ “ديستويفسكي” ولا تنتهي عند أعمال “ماركيز” الأوسع انتشاراً، وغيره من الرواة الأكثر شهرة منذ قرنين تقريباً، ذات طبعة جديدة أكثر بريقاً، لكن محتواها يبدو كحليب “البودرة” المجفف، مقارنة بالحليب الطبيعي الكامل الدسم! مسحوق ما مترجم ومضغوط كي لا يزيد عدد الصفحات وتزيد بالتالي التكلفة، عدا عن التخلص بشكل ساذج عن أجمل ما يميز هذا الفن –أقصد الرواية-جماليات النفس الشعري الذي يتقاطع مع السرد الروائي في العديد من المفاصل، التي يوظفها الروائي المحنك، لتكون لغته أكثر غناً وتنوعاً وجمالاً.
الاختلاف بين الترجمة الأدبية وغيرها من التراجم
بنيوياً وحتى فكرياً، تختلف الترجمة الأدبية عن التراجم الأخرى، فالمترجم الأدبي يعمل للوصول إلى هدف جمالي في عمله، من خلال اشتغاله على أشكال متجددة للتعبير وخاصة ترجمة الشعر، بينما يسعى المترجم في النصوص الأخرى، إلى الموضوعية والتزام الدقة والأمانة، مع مراعاة ترتيب عناصر النص بالطريقة التي رتبت بها في الأصل، حتى لو تنافى ذلك مع جمال الأسلوب ومنطق اللغة الهدف، ومن الواضح أن هذا السعي يقيد إلى حد كبير حرية المترجم في التعامل مع النص، ويطمس كل ما يدل على شخصيته، ومع ذلك فإن التزام الدقة والأمانة شرط أساسي من شروط الترجمة غير الأدبية، ويكفي للدلالة على ذلك أن نشير إلى الآثار الكارثية التي قد تترتب عن الترجمة الخاطئة لطريقة تركيب دواء ما مثلاً، لكن المترجم المشتغل بالنص الأدبي، فلديه قدر أو هامش واسع من الحرية في التعامل مع النص الذي يترجمه بل حتى وللإبداع فيه – ترجمة أدونيس لـ “أيف بونفوا” أو “سان جون بيرس” رغم الملاحظات التي قيلت عن أن ترجمة أدونيس الشعرية، بأنها جاءت مكتظة بشعريته هو، أكثر من شعرية النص نفسه-وهو –أي المترجم الأدبي- وإن كان يراعي الدقة في الترجمة، فإنه يستطيع التصرف في النص حسب قدرته الأدبية ومعرفته الفكرية وثقافته في اللغة التي يمتلك مهارات التعامل معها ومع اللغة الهدف، فيمكن أن يحذف شيئاً هنا ويضيف شيئاً هناك، بل حتى أن بعض المدارس النقدية، تتيح له أن يعيد كتابة النص في صياغة جديدة، دون أن تترتب عن ذلك أية آثار سلبية من الناحية الأدبية، طالما جوهر الفكرة موجود وبأمانة، ويحسب للروائي السوري “فواز حداد” خوضه في هذا الشأن الشائك بعمل روائي يحمل هذه الفكرة بعنوان “المترجم الخائن”، قدم فيه هذه الإشكالية، بين الأمانة المهنية في الترجمة وصياغة جمل وعبارات بلا روح، وبين الذهاب لتقديم نص شخصي منتحلاً شخصية النص المُترجم.
لكن هذه الحرية الظاهرية أو الشاقة إن صح الوصف، لا تنطبق على مترجم النصوص غير الأدبية، فهو مطالب بالدقة والأمانة في الترجمة، كما أنه في حاجة ملحة لاكتساب وبشكل متجدد، إلى كم كبير من المصطلحات المتجددة، وإلى إيجاد أو حتى خلق مقابل لها في اللغة الهدف، ومع ذلك فإن مترجم النصوص الأدبية يجد أن مترجم النصوص غير الأدبية لا يواجه غير مصاعب تتعلق بمفردات اللغة، في حين أن الأول يحتاج إلى معرفة اللغة الهدف معرفة عميقة، كما يحتاج إلى خيال خصب، شأنه في ذلك شأن الأدباء عامة، فالنص الأدبي غالباً ما يكون مكتوباً بلغة تصويرية صعبة بعيدة عن المستوى العادي للغة وأشكال الصياغة المألوفة، مما يتطلب من المترجم كفاءة عالية وحساً فنياً ومعايشة للعمل الذي يترجمه وانسجاماً مع مضمونه لكي يتمكن من نقل الأصوات والكلمات والجمل والصور كل ما في النص الأصلي من عناصر جمالية بأكبر قدر ممكن من الأمانة.
أيضاً من الأمور الهامة بل والحاسمة في ترجمة النص الأدبي، أن تكون ترجمة أمينة للنص الأصلي ولروحه ووحدة الانطباع العام عنه عند القارئ، بحيث توهم قارئها أنه أمام الأصل لا الترجمة، إلا أن هذا لا يعني ولا يفهم منه، أن تكون هناك ترجمة كاملة ونهائية للنص الأدبي، فمثل هذه الترجمة المطلوبة نظرياً مستحيلة من الناحية العلمية، وهذا ما يتيح إمكانية ترجمة النص الواحد إلى اللغة نفسها مرات كثيرة، ومن هنا يتمايز مترجم عن أخر.
ورغم الهجمات الحادة التي يقيمها بعض النقاد على الترجمات الأدبية التي لا تلتزم بحرفية النص، ولكن لا بد من الاعتراف صراحة، أن ترجمة رفيعة المستوى فنياً ولا تتطابق تماماً مع النص الأصلي هي خير من ترجمة حرفية رديئة من الناحية الفنية، فالحرفية لا تنتج إلا نصاً مضجراً، وبلا روح.
أيضاً تعتبر الترجمة الأدبية في جوهرها، هي إعادة خلق للنص الأصل، إنها خلق لوحدة جديدة بين المحتوى والشكل على أساس اللغة المترجم إليها، وهنا لا تقاس جودة الترجمة الأدبية بالتزامها بالأصل وحده، بل بالتزام النص المترجم بقوانين اللغة التي كتب بها وبروحها أيضاً.
عمل المترجم خاص به، وهو بالتأكيد ليس شريكاً للكاتب في إبداع النص في اللغة التي ينقله إليها، ولكنه بشكل فعلي هو كاتب النص باللغة التي يُنقل إليها، ولذا فإن مترجماً ما يترجم من الإنكليزية إلى العربية، لا يكفي أن يعرف اللغة الإنكليزية وقواعدها وأصولها، بل يجب أيضاً أن يكون كاتباً مبدعاً باللغة العربية أيضاً.
هذه بعض المقارنات التي تتيح التعرف على عمل خطير وخاص كعمل المترجم الأدبي، لكن الأمر يحتمل الخوض فيه بشكل موسع ومتجدد.