أمريكا اللاتينية.. تفسد حلماً من أحلام يقظة الولايات المتحدة
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
تأخذ السياسات الأمريكية حالياً أشكالاً أكثر رعونةً، وتشبه إلى حدٍّ كبير سياسات الاستعمار الأوروبي القديم الذي ورثته، حيث نذكر كيف أن الاستعمار الفرنسي جعل من غويانا بعد اكتشافها مرتعاً لتجارة العبيد، ومنفىً للمجرمين والخارجين عن القانون، عدى عن نهب ثرواتها وقتل شعبها، ومن ثم سلمت الراية إلى وريثتها الاستعمارية بريطانيا ومعها ألمانيا، وفي مراجعتنا للسيناريوهات التي ترسم للعالم بآلة الحرب ومكنة الإعلام الأنغلوساكسونية، لا نلاحظ اختلافاً كبيراً في السياسات.
ورغم أن الإدارة الأمريكية ولفترة من الفترات اعتمدت سيناريوهات الحرب الناعمة محاولةً إركاع البلدان التي ترفض سياساتها، ومستغلة وقوف نحو 40 دولة غربية خلف قراراتها الأحادية غير الشرعية التي تتخذها بعيداً عن الإرادة الدولية في مجلس الأمن الذي بدأ يشهد حالات كثيرة لرفض أو ربما الامتناع عن التصويت أو الفيتو على مشاريع القرارات الغربية، لكنها الآن أدركت حجم الكارثة في أنها بالغت بفرض العقوبات فخلقت واقعاً يتضمن دولاً معاقبة تتعاون مع بعضها البعض، بل تستثني الدولار من تعاملاتها وترسم أمان الطاقة والأمن الغذائي وكل أمان حاولت أمريكا زعزعته في أوطانها، ما شكل إقبالاً حتى من حلفاء تلك الإدارة في الأمس إلى التوجه نحو معسكر تلك الدول المعاقبة، أو على الأقل خلق ذلك خيارات متعددة ومتنوعة، أو ربما بديلة لما كان ترسمه واشنطن وتجبر الدول عليه.
إن الإدارة الأمريكية وبعد رؤيتها المتأخرة لهذه الحقائق تتشبث بفكرة البحث عن دول جزرية أو ضعيفة أو رقع تحوي إنفصاليين في كل مناطق العالم بغية إشعال الاستفزازات بداخلها من خلال تسليحها ومؤازرتها بزيارات دبلوماسية استفزازية لدول جوارها “وطنها الأم”، ودون أن تحسب تلك الإدارة الثمن الذي ستدفعه تلك الدول أو الكيانات الصغيرة سواءً كان تدميرها، أو خلق دمار لمنطقة برمتها، فالمهم هو إنقاذ “الإمبراطورية”. ورغم إقرار القاصي والداني وحتى الشخص البعيد عن متابعة عالم السياسة بعجز أمريكا وجيوشها الجرارة عن فتح جبهات صراع جديدة، وخاصة بعد الكارثة التي أقحمت نفسها ودول الاتحاد الأوروبي فيها في أوروبا الشرقية، إلا أنها تسعى بالفعل الآن إلى فتح جبهات توتر جديدة، وصحيح أن تلك الجبهات لا تتضمن حروباً ساخنة، لكنها بنفس الوقت تعتبر جبهات استفزاز، ومسبباً لإزالة حسن النوايا في مناطق وجودها، حيث من الممكن أن يتسبب أي حادث ولو كان غير مقصود -كتصادم طائرين أو زورقين حربيين- بتوتير أي منطقة وتحويل الوضع فيها إلى حرب دامية مدمرة الرابح فيها خاسر.
لم يغب عن بال الساسة الأمريكيين أن دول أمريكا اللاتينية تعيش صعوداً قوياً للقوى الوطنية اليسارية التي أفسدت حلماً من أحلام يقظة أمريكا، يدّعي بأن القارة اللاتينية هي “الحديقة الخلفية لأمريكا”، بعد أن باتت تشكل قطباً صاعداً قوياً لا يقود المنطقة فقط ويتحدى عقوبات الغرب الأحادية المفروضة عليها، بل يعلن بأعلى صوته موقفاً مناصراً لجميع قضايا الأحرار والوطنيين في كل أنحاء العالم. وإن البرازيل والأرجنتين وكوبا وغيرها من دول المنطقة وبعد أن نجحت في اجتثاث الفساد الذي زرعه الغرب في أوطانهم، ونجاحهم في زراعة أرقى السياسات الاقتصادية والاجتماعية والزراعية وحتى المناخية في مجتمعاتهم ومؤسساتهم، باتوا اليوم يمثلون تهديداً عالمياً لصاحبة أفسد السياسات المزروعة في العالم؛ فلم يكتفوا بالتنسيق أو حتى الشراكة الإستراتيجية مع بعضهم البعض اقتصادياً وسياسياً، بل تعدى الأمر ذلك إلى نسجهم تحالفات مع الدول الوطنية في كل أنحاء العالم، فتارةً يصل خط التحالف من أقصى تلك القارة إلى روسيا، وتارةً إلى الصين، ومرة أخرى إلى الجزائر، وفي الأمس رأينا رئيس كوبا ميغيل دياز كانيل مع رئيس إيران إبراهيم رئيسي يجتمعان في طهران واضعين القضية الفلسطينية نصب أعينهما ومجددين التأكيد على دعمهم لها في وجه الهجمة الصهيو- أمريكية الفاشية، إضافة لرسمهما خططاً وشراكات اقتصادية وتبادلات للخبرات والتقانات بين البلدين، وطبعاً سبق هذه الزيارة زيارات متبادلة ووفود بين طهران وبلدان القارة اللاتينية تدور حول المسار الجيواستراتيجي -المرعب لواشنطن- ذاته.
كل يوم تكتشف الإدارة الأمريكية تهديدات جديدة لعرش “إمبرطوريتها” فلم تعد مشكلتها في وجود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوروبا الشرقية، بل أيضاً وجود رئيس كرئيس البرازيل لويس إيناسيو لولا داسيلفا الذي وضع نصب عينيه تطوير بلاده لكي تصبح صوتاً عالياً يعمل على إرساء الأمن والسلم الدوليين، بل ويعمل أيضاً على حل مشكلات الأمن الغذائي للشعوب، وحول بلاده إلى أنموذج يتم تبنيه حتى من قبل قمة المناخ العالمية “كوب 28” في الحفاظ على غابات حوض الأمازون بوقت لا يتعدّى الستة أشهر، بعد أن حاول سابقه -حليف أمريكا والليبرالية الحديثة – جايير بولسنارو تدميرها لتلويث المناخ العالمي خدمة لسياسات الرأسمالية المتوحشة.
أمام هذا المشهد تستخدم واشنطن داخل القارة اللاتينية مسارين، الأول، وهو طبعاً سينتهي بالفشل، كما انتهى في السابق بالرئيس بولسنارو الماثل أمام المحاكمات الآن، حيث يعاد السيناريو عبر دعم خافيير ميلي الذي ترأس الأرجنتين معرفاً عن نفسه بأنه “سيدولر” اقتصاد بلاده الذي قاسى الأمرين حتى خرج من محنة التضخم، وسيناصر أمريكا، وحتى “إسرائيل” التي لم يبقَ إنسان أو سياسي على وجه الأرض إلا وأدانها أو خرج في مظاهرة أو صور مقطع فيدو ضدها. أما المسار الثاني فقد بدأ من خلال إشعال الاستفزازات بإرادة أنغلوساكسونية في غويانا ضدّ فنزويلا، فمن المعلوم أن هناك مناطق حدودية بين البلدين وهي مدعاة خلاف عمره أكثر من 150 عاماً بينهما، ورغم تأكيد رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو أن المسار والسيناريو الوحيد لحل هذا الخلاف هو التفاوض نجد أن غويانا تجلب الشركات الأمريكية النفطية إلى إقليم إيسيكويبو المتنازع عليه لاستثمار النفط والغاز ضمنه وعلى سواحله، بل وتجلب قاعدة أمريكية وقوات أمريكية للمطالبة بضم 90% من الأراضي المتنازع عليها إلى سيادتها معتمدة أدلة وخرائط مزورة ومتجاهلة اتفاقية جنيف 1966 بين البلدين، وسبق ذلك العديد من المناورات المشتركة مع القوات الأمريكية الرامية إلى استفزاز كركاس التي ما زالت تلتزم الحل السلمي وتأكد عليه رغم أن عدد جيشها يفوق بخمسين مرة عدد جيش غويانا التي تراهن على الدعم الأمريكي في حال زجت نفسها في صراع مع جارتها.
إن هذا السيناريو تكرره الولايات المتحدة في كثير من البلدان، فهي ترفض نتيجة أي اقتراع ديمقراطي لإعادة إقليم مفصول عن وطنه الأم إلى سيادة وحماية بلاده، كما حدث في إقليم دونباس، وفي الوقت نفسه تؤيد أي جماعات إنفصالية في الإنسلاخ عن وطنها الأم، إن كانت تدور في فلكها وتحقق إرادتها، حتى لو لم يكن لتلك القوى أي تأييد شعبي كما يحدث في تايوان والجزر المتنازع عليها في المحيط الهادي وغيرها من مناطق العالم. ومع ذلك فإن الحل الوحيد لهذه الأزمات يكمن بيد الشعوب التي يجب أن تبقى دائماً تسير على جادة الصواب وتعي خطورة المخططات المرسومة لاستخدام بلدانها أو أقاليهما كأدوات صراع أو كحاملات طائرات متقدمة للاحتلال الأمريكي، كما عليها حث حكوماتها للتقارب أكثر مع القوى الصاعدة وزج بلدانها في خانة التعدد السياسي والاقتصادي، وإلا سنشهد من حين إلى آخر أوكرانيا جديدة وتايوان جديدة.