مجلة البعث الأسبوعية

“إسرائيل” وخطاب التماهي!

د. خلف المفتاح

اعتمدت “إسرائيل” مند قيام كيانها الاستيطاني الإحلالي على مقولة أن الشعب اليهودي هو ضحية المحرقة، وأنها شعب يعود إلى أرضه وعانى من عداء السامية. وبهذا الخطاب حصل اليهود على تعاطف دول وشعوب كثيرة مستغلين قوة دعايتهم المنظمة وغياب الصوت العربي. ومع تمكّن الكيان الصهيوني، وتعاظم قوته العسكرية، وما حصل بعد حرب 1967، وما تحقّق من نجاحات لم يكن يتوقعها، وتمثلت بتحقيق انتصار سريع على جيوش ثلاث دول عربية خلال ستة أيام، بدأ الخطاب الصهيوني يتغيّر لجهة تكريس وعي داخلي وخارجي بأن الجيش الإسرائيلي هو الجيش الذي لا يُقهر، وأنه يمتلك ذراعاً طويلة ورادعة لأيّ تهديد أو خطر يواجه ذلك الكيان. ومع تآكل هذه الصورة في حرب تشرين عام 1973، وكذلك في حرب تموز عام 2006، حاول العدو استعادة ذلك الخطاب عبر استعراض القوة والتهديد بالأسلحة الفتاكة، وأنه قوة إقليمية يمكن الاعتماد عليها في مواجهة تحدّيات إقليمية تواجه دول المنطقة وأخطار خارجية مبالغ فيها، فشرعت بعض الأنظمة العربية ليس في التطبيع معه وحسب، وإنما في إقامة تحالفات عسكرية وأمنية بهدف قلب معادلة الصراع والعداء من عربي – إسرائيلي إلى صراع عربي مع بعض دول الإقليم المجاورة للعرب؛ ونجح إلى حدّ ما في ذلك، وأصبح الخطاب الشائع هو خطاب التطبيع و”صفقة القرن” وما سمّي “السلام الاقتصادي”، وكذلك الدعوة إلى قيام “الولايات المتحدة الأبراهامية”، وهو ما روّجت له الإدارة الأمريكية في عهد ترامب وصهره كوشنير، وأوجدت له آليات متابعة وخطاب تسويقي على أرض الواقع.

إن من أولى نتائج معركة “طوفان الأقصى”، بل أهمها، أنها أسقطت الخطاب الصهيوني الذي اعتمد ويعتمد على عدة عناوين، منها مقولة “الجيش الذي لا يُقهر” و”الذراع القوية” و”إسرائيل الضرورة”، و”الحاجة لأمن المنطقة”، التي تمتلك “قوة الردع”، وأنها “الدولة الديمقراطية” التي تحترم حقوق الإنسان والأنموذج الأخلاقي والثقافي والليبرالي للغرب، وغير ذلك من أكاذيب ودعاية منظمة (بروباغندا). ومع سقوط عناصر ذلك الخطاب، يصبح السؤال: تُرى ما هو الخطاب الدعائي الذي سيتبعه الكيان الصهيوني بعد هزيمة السابع من تشرين الأول؟.

للإجابة عن ذلك، يمكننا توقّع وملاحظة جملة عناوين وافتراضات، أولها أن الإعلام الصهيوني بدأ يعتمد خطاباً يمكن وصفه بخطاب التماهي مع الغرب، من قبيل أن “إسرائيل” تواجه التحدّيات الأمنية نفسها التي تواجه الغرب، من قبيل أن المقاومة الفلسطينية هي نسخة عن “داعش”، وتشبيه ما جرى من هجوم على الكيان بما جرى في 11 أيلول 2001، وأن هناك “هولوكوست جديداً” يواجه اليهود، وأن “إسرائيل” تواجه إيران التي هي في مواجهة مع الغرب، إضافة إلى أن “إسرائيل الديمقراطية” بدأت تستعيد خطاب التأسيس بأنها تواجه أنظمة ودولاً وشعوباً مستبدّة متخلفة لا تعرف معنى الحرية وقبول الآخر، وهي الأنموذج السياسي والثقافي الذي يمثل قيم الغرب، وربما ستحاول استعادة خطاب التأسيس للتعاطف الغربي معها بأنها حمل وديع في غابة من الذئاب؟ فـ”إسرائيل” تريد أن تتماهى مع الرأي العام الغربي، أيضاً، من خلال ما سمّته “الكابينيت”، أي غرفة العمليات أو حكومة الطوارئ، لتكون الشبيه والمماثل للغرفة التي أقامها تشرشل في الحرب العالمية الثانية في لندن، أثناء مواجهة أوروبا للنازية، بمعنى أن الإسرائيليين يواجهون ما واجهته أوروبا في الحرب العالمية الثانية. وهنا، يُشار إلى ما جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوصفه ما يجري في غزة بأنه شبيه لما قامت به النازية في ستالينغراد من قتل ودمار، ولكنه انتهى بسقوطها وانتصار إرادة الشعوب، مذكراً الغرب بنظرية بافلوف الروسي بأن لكل مثير استجابة؟.

إن “إسرائيل” وقيادتها المتطرفة تعيش اليوم حالة من الورطة وعدم اليقين والتناقض، فهل تستطيع أن تتبنى إعلامياً وسياسياً خطاب الضعيف الذي يواجه تحدّياً من قوى إرهابية، أو عالماً عربياً وإسلامياً اتّحد شعبياً، على الأقل، في مواجهتها وإدانتها وتعاطفه مع الشعب الفلسطيني، وكيف لها أن تخدع العالم بأنها تدافع عن نفسها وهي تحتل الأراضي الفلسطينية ولا تنفذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحل الدولتين، وتمارس كل أنواع القتل والإرهاب والتدمير بحق شعب محاصر يدافع عن حقوقه المشروعة ويجد تعاطفاً عالمياً مع قضيته، بشهادة الجميع، بما في ذلك حليفها الأميركي والغربي؟.

ولكن من الواضح أن أيّ خطاب سيتبناه المطبخ السياسي والإعلامي الإسرائيلي سيكون الثابت فيه هو أنها “دولة” ديمقراطية ومتقدّمة علمياً وتدافع عن “حق اليهود في وطن”، كغيرهم، إلى جانب خطاب تكتيكي يركّز على الراهني، أي خطاب التماهي مع الغرب. والمشكلة هنا أن “إسرائيل” لا تريد أن تظهر أمام جمهورها وحلفائها والمراهنين عليها أنها ضعيفة وبحاجة إلى من يحميها أو يتعاطف معها على الأقل.