ديناميكيات القوة.. الصين في سياسة هنري كيسنجر الواقعية
“البعث الأسبوعية” عناية ناصر
وسط تحيّة الدبلوماسي الأمريكي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة عن عمر يناهز المائة عام، انطلقت رواية في الوقت نفسه عبر قنوات الإنترنت وكذلك في أقسام العديد من وسائل الإعلام الدولية، تؤكد أن الدبلوماسي الراحل المثير للجدل هنري كيسنجر وجد نفسه في بعض الدوائر موصوماً بمسميات مختلفة، تشير إلى أفعال يتردّد صداها بعواقب عالمية بعيدة المدى. يُظهر هذا التباين الملحوظ في الآراء والتقييمات الإرث السياسي المبهم الذي تركه كيسنجر وكان لا غنى عنه في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية في الستينيات والسبعينيات.
كيسنجر الواقعي
تفاوض كيسنجر الواقعي المتشدّد الذي انتشر تأثيره في أروقة السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وساعد في اتخاذ القرارات في بيئات جيوسياسية بالغة الأهمية، بما في ذلك فك ارتباط الولايات المتحدة بفيتنام. ومع ذلك، لاقى إرث كيسنجر، وخاصة في منطقة أمريكا الجنوبية، وكذلك في جنوب وجنوب شرق آسيا، اتهاماتٍ بتعزيز الهجمات الجوية ودعم الأنظمة الاستبدادية العسكرية القمعية، حيث تعرّض كيسنجر لانتقادات بسبب تحالفه مع الأنظمة الاستبدادية، التي تم تصويرها على أنها استراتيجية لمواجهة أيديولوجية الشيوعية.
وفي هذا الإطار تثبت السجلات الرسمية تواطؤ نيكسون وكيسنجر في تأييد انقلاب عام 1973 الذي أطاح برئيس تشيلي سلفادور أليندي. وقد تجلت آثار هذه الاضطرابات التي أدارها الجنرال أوغستو بينوشيه في شكل انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإعدامات السياسية، وإلغاء الانتخابات. وعلى نحو مماثل، كانت كمبوديا واحدة من أشهر البقاع التي سالت فيها الدماء بسبب سياسات كيسنجر فيها، حيث كان الرجل هو العقل المدبّر لخطة قصف أهداف عشوائية في مناطق مأهولة بالسكان هناك بغية تحسين الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة في التفاوض مع فيتنام قبل الانسحاب.
في عيون الخبراء
حدّد العديد من الخبراء والمحللين السياسيين والمراقبين مجموعة من القضايا التي ساهمت في تصويره على نحو سيّئ. على سبيل المثال، صوّر سيمور هيرش في كتابه “ثمن القوة” (1983)، كيسنجر على أنه “مصاب بجنون العظمة”، في حين صاغ كريستوفر هيتشنز، في “محاكمة هنري كيسنجر” (2001)، نقده على أنه لائحة اتهام شاملة، داعياً إلى محاكمة كيسنجر كمجرم حرب. وهكذا، ظل “حضوره الحتمي” في مشروع الاحتواء الغربي موضوعاً للنقاش بين خبراء العلاقات الدولية. وما يضيف المزيد من الغموض إلى إرث كيسنجر هو أثره الدائم على الصين، الدولة الشيوعية ذات المسار الجيوسياسي المتميز.
الصين في دبلوماسية كيسنجر
زار كيسنجر الصين أكثر من 100 مرة طوال حياته، وكانت رحلته الأخيرة إلى بكين في تموز 2023 خلال فترة تصاعد التوترات في العلاقات الصينية الأمريكية. والتقى خلال هذه الزيارة بالرئيس الصيني شي جين بينغ، وأشاد بدوره المهم في تعزيز العلاقات الثنائية. وشدّد الرئيس شي على القيمة الدائمة التي يوليها الشعب الصيني للصداقة، معرباً عن امتنانه لمساهمات كيسنجر التاريخية في تعزيز نمو العلاقات الصينية الأمريكية.
لا شك أن الصين اجتذبت الاهتمام العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فبرزت باعتبارها واحدة من أكبر الاقتصادات. وظهرت تساؤلات حول تأثير صعودها الاقتصادي في السياسة العالمية والقوة العسكرية وإدارة النظام الاقتصادي العالمي، وقال كثيرون: إن التزام الصين بالمؤسسات الغربية سهّل نموّها. ويتفق محللون سياسيون مثل كيسنجر على أن النمو الديناميكي الذي حققته الصين جعلها قوة رئيسية ذات آثار كبيرة في العلاقات الدولية. في عام 2005، توقع كيسنجر، المهندس الرئيسي للسياسة الأمريكية الصينية في السبعينيات، في صحيفة “واشنطن بوست” أن صعود الصين وآسيا سيعيد تشكيل النظام الدولي، ويحوّل المركز السياسي العالمي إلى منطقة المحيط الهادئ. وحذّر من افتراض مواجهة استراتيجية شبيهة بما حدث في ألمانيا الإمبراطورية، مؤكداً تفضيل الصين للنهج الصبور والمتوازن. في كتابه، عن الصين، لم يشجّع كيسنجر على استبدال الصين بالاتحاد السوفييتي في التفكير السياسي، وسلّط الضوء على الاختلافات التاريخية في التقاليد الإمبراطورية بين البلدين، وشدّد على أن الدولة الصينية، القائمة منذ 2000 عام، تعتمد على التوافق الثقافي أكثر من القوة، محذراً من الاحتواء العسكري على غرار الحرب الباردة. حظي كتاب كيسنجر حول الصين باهتمام عالمي واسع النطاق ومراجعات واسعة النطاق. ومع تاريخه الغني في الدبلوماسية والسياسة الخارجية، شارك كيسنجر في مبادرات دبلوماسية، وساهم بشكل ملحوظ في انفتاح العلاقات الأمريكية مع الصين في أوائل السبعينيات.
تناول كيسنجر في كتاباته أسئلة رئيسية حول الدور الذي تلعبه الصين في ديناميكيات القوة العالمية في القرن الحادي والعشرين. ووصل إلى معالم رئيسية في السياسة الخارجية الصينية، حيث غطى الحساسيات والاستراتيجيات الصينية التقليدية، كما أعاد النظر في المظالم الصينية المعروفة إزاء “قرن الإذلال”، وأكد خوف الصين التاريخي من التطويق، مع الأخذ في الاعتبار التحدّيات السابقة مثل تلك التي فرضها المغول. تناول كتاب كيسنجر حول الصين الأحداث الحاسمة منذ ظهور ماو، بما في ذلك الديناميكيات الداخلية والخارجية للدبلوماسية الصينية، والتفاعلات الصينية الأوروبية، والحرب الكورية، وذوبان الجليد في العلاقات الصينية الأمريكية خلال عهد نيكسون، وأزمة مضيق تايوان، والقفزة الكبرى إلى الأمام، والثورة الثقافية، وإصلاحات ما بعد ماو، والسياسة الخارجية التي ينتهجها دنغ، وعصر جيانغ زيمين، و”الصعود السلمي” للصين، من بين موضوعات أخرى مهمّة.
حظي موقف كيسنجر تجاه الصين باعتراف واسع النطاق بسبب دوره الحاسم في العلاقات الدبلوماسية بين الغرب والصين في السبعينيات، رافضاً فكرة هيمنة الصين على العالم، واقترح أن تركّز القيادة السياسية في البلاد على مواءمة المؤسسات السياسية مع التحولات الاقتصادية. وفي إحدى المناقشات، أعرب كيسنجر عن ذلك قائلاً: “لا أعتقد أن الدولة التي ستكون منشغلة بهذا التغيير الأساسي سيكون لديها الوقت الكافي للسيطرة على العالم”.
العلاقة ضمن مخاوف استراتيجية
تضمّنت العلاقة بين الولايات المتحدة والصين اعتباراتٍ استراتيجية، حيث تسعى كل دولة إلى تشكيل نفوذ الدولة الأخرى. تهدف الصين إلى إبعاد القوة الأمريكية عن حدودها، والحدّ من القوة البحرية الأمريكية، وتقليل ثقلها في الدبلوماسية العالمية. ومن ناحية أخرى، سعت الولايات المتحدة إلى حشد جيران الصين للعمل كثقل موازن ضد الهيمنة الصينية، مع التركيز على الاختلافات الأيديولوجية. ويزداد التفاعل الصعب تعقيداً بسبب المفاهيم غير المتكافئة للردع والضربات الاستباقية، حيث ركزت الولايات المتحدة على القوة العسكرية الساحقة، في حين أعطت الصين الأولوية للتأثير النفسي الحاسم، ما يزيد من خطر الحسابات الخاطئة.
وفي سعيه لإثبات فهمه العميق للفكر الاستراتيجي الصيني، أكد كيسنجر أن الصينيين ممارسون بارعون للسياسة الواقعية، وأن عقيدتهم الاستراتيجية تختلف بشكل ملحوظ عن التفضيلات الغربية في الاستراتيجية والدبلوماسية. ووفقاً لكيسنجر فإن تاريخ الصين المضطرب غرس في قادتها إدراكاً مفاده أن ليس كل مشكلة لها حل مباشر، محذراً من التركيز المفرط على السيطرة الكاملة على أحداث محدّدة، وهو ما قد يعطل انسجام الكون.
غموض العلاقة
رأى كيسنجر أن العلاقة بين واشنطن وبكين تعاني من الغموض، حيث انتقد بعض الأكاديميين وصناع السياسات الأمريكيين الصين بشدة، واصفين سياسات ما بعد الحرب الباردة بأنها “استرضاء”. وأعرب كيسنجر عن اعتقاده بأن مفهوم “التهديد الصيني” يدور حول قدرتها المتزايدة على تعطيل النظام الدولي القائم. ومن الناحية العسكرية، يُنظر إلى الصين على أنها تكتسب القدرات اللازمة لإظهار القوة خارج شرق آسيا وتحدّي البحرية الأمريكية، وخاصة بالقرب من تايوان. ومن الناحية الاقتصادية، أدّى الطلب المتزايد على المواد الخام إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتوسيع عمليات الاستخراج على مستوى العالم. ظلت النيّات وراء قوة الصين الجديدة غير واضحة، في ظل التأكيدات الرسمية التي تنفي وجود دوافع عدوانية، وتؤكد وضعها المتطور وتتوقّع عقوداً من الزمن قبل التكافؤ العسكري مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، استمرت الشكوك بين الباحثين وصناع السياسات الأمريكيين بشأن مدى استدامة صعود الصين. توقع البعض سقوط النظام، والتباطؤ الاقتصادي المتوقع، وسلّطوا الضوء على الاضطرابات الداخلية المتزايدة. وعلى الرغم من هذه المخاوف، فإن النمو الاقتصادي في الصين يتناقض بشكل صارخ مع الصراعات الحالية في أوروبا والولايات المتحدة. ووفقاً لكيسنجر، اختلفت الديناميكيات الاستراتيجية في آسيا بشكل كبير، ولهذا نصح بعدم التركيز على الحشد العسكري الصيني، مشيراً إلى أنه في حين زادت الصين من قدراتها العسكرية، فإن ميزانيتها الدفاعية كانت أقل من 20% من ميزانية الدفاع الأمريكية. وقال: إن الاختبار الرئيسي لنيّات بكين يكمن فيما إذا كانت قدراتها المتزايدة تهدف إلى استبعاد أمريكا من آسيا أو المساهمة في المساعي التعاونية.
لاحظ كيسنجر أن العديد من الصينيين، سواء داخل الحكومة أم خارجها، ينظرون إلى واشنطن على أنها تسعى إلى احتواء وتقييد صعود الصين، وحذّر من النبوءات التي تتحقق ذاتياً، مؤكداً الترابط بين الولايات المتحدة والصين في عالم تحكمه العولمة. وأكد أن سيناريو الحرب الباردة من شأنه أن يؤدّي إلى تحالف دولي وتفاقم النزاعات على مستوى العالم عندما تكون هناك حاجة إلى حلول عالمية شاملة لقضايا مثل الانتشار النووي، والبيئة، والطاقة، والمناخ.
المواجهة ليست الحل
وفي تسليط الضوء على أن الصراع ليس متأصلاً في نهضة أي دولة، أشار كيسنجر إلى الولايات المتحدة في القرن العشرين كمثال لتحقيق التفوق دون صراع مع الدول المهيمنة، وقال: إن العلاقات الصينية الأمريكية لا تحتاج إلى اتباع مسار المواجهة ويمكن أن تجد تعاوناً مناسباً في القضايا المعاصرة. ومع ذلك، أشار إلى عدم وجود مفهوم شامل للتفاعل بينهما، على عكس فترة الحرب الباردة حيث كان هناك خصم مشترك يسهّل التعاون. وعلى الرغم من إمكانية التعاون، فإن كلا البلدين يفتقران إلى إطار مشترك وسط التحديات التي يفرضها عالم تحكمه العولمة ويشهد اضطراباتٍ سياسية واقتصادية وتكنولوجية.
في سياق صعود الصين، دعا كيسنجر إلى وضع حدّ للانتقادات الأمريكية لنظام الحزب الواحد في الصين وادّعاءات انتهاكات حقوق الإنسان. ومن خلال تبنيه للفكرة الوستفالية القائلة إن الدول يجب أن تمتنع عن التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها، اعتبر الصينيين أنموذجاً معاصراً للويستفاليين، ولتجنب الصراع مع الصين، اقترح التنازل عن هذه النقاط والتركيز على المصالح المشتركة.
واقترح كيسنجر نهجاً عملياً، حيث حث المثاليين على الاعتراف بالحاجة إلى تعديلات عرضية على أساس الظروف، وحثّ الواقعيين على الاعتراف بحقيقة القيم في السياسات العملياتية. وقال في مقابلة عام 2021: “وفي التعامل مع الصين، لا بد من فرز المدارس الفكرية المختلفة. هناك مجموعة تعتقد أن قدرة الصين على السياسة الخارجية يجب مواجهتها على جميع المستويات، من الاقتصاد إلى السياسة الداخلية الصينية. وهو ينسب السياسات الصينية الحالية إلى القيادة الصينية الحالية ويسعى جاهداً لتكوين مجموعة أكثر استيعاباً. لكن التعايش في عالم التكنولوجيا الحالي أمر ضروري، لأنه من المستحيل تصوّر حرب بين الدول الكبرى التي تمتلك تكنولوجيا ذكاء اصطناعي كبيرة لن تدمّر الحياة الثقافية كما نعرفها. لذلك سيكون هذا هو النقاش في أمريكا وربما في العالم”.
دعوة أوروبا إلى الحياد
ووفقاً لكيسنجر، يجب على أوروبا أن تمتنع عن استغلال التوترات بين الولايات المتحدة والصين، لأن القيام بذلك قد يؤدّي إلى تكثيف المواجهات وتفاقم الأزمات. وبدلاً من تأييد موقف عدواني ضد الصين، أيّد فكرة تعزيز التفاهم الاستراتيجي المشترك بين الدول. ومن الأهمية بمكان تجنّب تصعيد الوضع من خلال المناورة المستمرة للحصول على المزايا، وتأكيد نهج أكثر اعتدالاً وتعاوناً في التعامل مع العلاقات الدولية.
باختصار، قدّم كيسنجر رؤى مدروسة حول التاريخ الصيني والسياسة الخارجية، وهو أمر غير معتاد من منظور صانع السياسة الأمريكي السابق. وهذا المنظور يجعل الموضوع ذا صلة بالمناقشات بين خبراء العلاقات الدولية.