غزة تضرّ بالمصالح الأمريكية
عناية ناصر
أثارت عملية “طوفان الأقصى” البطولية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية على الكيان الصهيوني موجة جديدة من العنف في “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي” المستمر منذ 75 عاماً. فخلافاً للاشتباكات السابقة، أظهرت المقاومة الفلسطينية قوة عسكرية غير متوقّعة وألحقت بـ”إسرائيل” ضرراً أكبر من أي وقت مضى..
لقد أصبح هذا الصراع مصدر قلق عالمياً مرة أخرى، حيث يحاول زعماء العالم منع تفاقم الأزمة والسعي إلى حل سلمي. وعلى الرغم من أن نتائج هذه الأزمة وتأثيرها غير مؤكدين، لكن بعض المحللين استكشفوا كيفية تأثيرها في ديناميكيات القوة بين الدول الكبرى، وآفاق شرق أوسط جديد، والتحدّيات التي تواجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، ويتفقون على أن استمرار هذه الحرب يضرّ بمصالح الولايات المتحدة والغرب.
قد يفقد الغرب تركيزه على الحرب في أوكرانيا إذا امتدّ الصراع بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية إلى أجزاء أخرى من العالم العربي. وفي هذا السياق يحاول الرئيس الأمريكي ربط المزيد من المساعدات لأوكرانيا بحزمة مساعدات طارئة لـ”إسرائيل”، لكنه يواجه رفضاً من الكونغرس. وحتى لو نجح في ذلك فإن أزمة الشرق الأوسط قد تؤدّي إلى تقليص تدفق المساعدات إلى أوكرانيا.
إن الضحية الأهم لاندلاع الحرب واستمرارها في غزة هي الزوال المبكّر لرؤية الشرق الأوسط الجديد التي اقترحها رئيس الحكومة الصهيوني بنيامين نتنياهو مؤخراً في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد أدّى ردّ العدوان الصهيوني على غزة إلى تفاقم الوضع أكثر من أي وقت مضى، كما تواجه “إسرائيل” معضلة صعبة في الردّ على هذه العملية. فمن ناحية، يتطلب الضغط الداخلي رداً قاسياً من جانب “إسرائيل” على هذه الهجمات، ومن ناحية أخرى، ومع القصف المتواصل، وارتفاع عدد الضحايا المدنيين في غزة، وتنامي المشاعر المعادية لـ”إسرائيل” في العالم العربي، فإن السلام والرؤية الجديدة للشرق الأوسط تبدو بعيدة كل البعد عن أي وقت مضى. إن تنفيذ تهديدات القادة العسكريين الإسرائيليين بدخول غزة وتغيير أوضاعها قد يؤدّي إلى امتداد الأزمة إلى الضفة الغربية وإلى دول أخرى في المنطقة.
وتشمل العواقب الطويلة المدى لعملية المقاومة الفلسطينية المفاجئة صراعاً إسرائيلياً فلسطينياً أعمق، والمزيد من العنف، وزيادة احتمال فشل جهود السلام في المستقبل، كما ستؤدّي الحرب على غزة إلى جعل الحل السلمي للأزمة مستحيلاً لفترة غير محدّدة من الزمن.
لقد هزّ العدوان الصهيوني على غزة السياسة الداخلية للولايات المتحدة، حيث خلقت هذه الأزمة تحدّيات جديدة لإدارة بايدن، وأدّت إلى تفاقم الفوضى الحالية وعدم كفاءة الكونغرس، وجعلت الانتخابات الأمريكية لعام 2024 أكثر غموضاً. ورغم أن الرأي العام الأمريكي لا يولي عادة الكثير من الاهتمام للأحداث الخارجية، إلا أن الصور المروّعة للوفيات بين المدنيين في الشرق الأوسط وحقيقة وجود بعض الأمريكيين بين الضحايا والأسرى تظهر أن أزمة الشرق الأوسط سيكون لها بالتأكيد آثار وستؤثر في الانتخابات.
لقد بدأ بالفعل توجيه أصابع الاتهام، فعلى الرغم من عدم وجود أي دليل على دور إيران المباشر في التخطيط لهذه العملية، إلا أن الجمهوريين ربطوا “الهجوم على إسرائيل” بسياسات بايدن تجاه إيران، وذلك من خلال السماح لإيران بالوصول إلى 6 مليارات دولار من أصولها المجمّدة مقابل إطلاق سراح المواطنين الأمريكيين.
ويحاول جمهوريون بارزون، مثل دونالد ترامب ورون ديسانتيس، حاكم فلوريدا وأحد منافسي ترامب المحتملين في السباق الرئاسي، استخدام هذا الصراع لتحقيق مكاسب سياسية من خلال اتهام إدارة بايدن بالتساهل أكثر من اللازم مع إيران.
في هذه الأثناء، يعاني الجمهوريون، حتى وقت قريب من أزمة سياسية داخلية بشأن رئيس مجلس النواب الأمريكي، فمنذ أن قام بعض الجمهوريين بإقالة رئيس مجلس النواب، أصبح مجلس النواب مشلولاً عملياً. وقد خلقت هذه الفوضى مشكلة كبيرة في السياسة الخارجية لأنها تؤثر في حجم وتوقيت المساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل”، فضلاً عن استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، التي تواجه بالفعل معارضة من بعض الجمهوريين في الكونغرس.
وإذا كانت هناك بالفعل خلافات وتوترات بين صنّاع القرار في الولايات المتحدة بشأن التزام الولايات المتحدة بدعم أوكرانيا أو زيادة الدعم لتايوان، فقد تصاعدت هذه التوترات الآن مع ظهور أزمة الشرق الأوسط والتهديد الذي يواجه كياناً مهمّاً وعزيزاً جداً على الولايات المتحدة.
تقوّض حرب غزة رؤية الشرق الأوسط الجديد، التي سمحت للولايات المتحدة بالابتعاد عن الشرق الأوسط والتركيز على المنافسات الكبرى، كما أنها تزيد من حدة الانقسامات الحزبية الداخلية والخارجية بين الجمهوريين والديمقراطيين، الأمر الذي يؤدّي إلى إضعاف البنية السياسية في الولايات المتحدة والحكومة القائمة، ويمكن القول بشكل عام: إن هذه الأزمة ليست في مصلحة الولايات المتحدة والغرب.