اللعبة انتهت.. نتنياهو يدرك أن الحرب وسيلته الوحيدة للبقاء
“البعث الأسبوعية” عناية ناصر
إدراكاً منه لحقيقة أن هزيمة المقاومة الفلسطينية غير محتملة، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي عازم على إطالة أمد الحرب في غزة، وذلك في المقام الأول لكسب الوقت، وحماية إرثه السياسي، وتجنّب السجن. وبغض النظر عن الكيفية التي تنتهي بها الحرب الوحشية التي تشنّها “إسرائيل” على قطاع غزة، يبدو أن هناك نتيجة واحدة لا يمكن إنكارها آخذة في الظهور: وهي الزوال المحتمل للحياة السياسية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وبعيداً عن التداعيات المباشرة لعملية “طوفان الأقصى” التي قادتها المقاومة الفلسطينية، فإن المشكلات التي يواجهها نتنياهو لها جذور عميقة، وتتشابك مع جهوده الحثيثة لتجنّب تهم الفساد والسجن المحتمل. وقد أدّى ذلك إلى تشكيل الحكومة اليمينية الأكثر تطرّفاً وتشدّداً في تاريخ الكيان الصهيوني، ما مهّد الطريق بشكل غير مباشر للعملية التاريخية التي شنّتها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول.
مستقبل نتنياهو السياسي على المحك
رغم الاعتقاد بأن المؤسسة العسكرية والأمنية لحكومة الاحتلال قد فوجئت بحجم الأحداث التي وقعت يوم 7 تشرين الأول، فقد شعرت بالتغيير والتحوّل الوشيك في غزة المحاصرة، والضفة الغربية المحتلة، وحتى الأراضي المحتلة عام 1948. ولا شك أن تصرّفات الوزراء المتطرّفين، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، اللذين قام نتنياهو بحمايتهما للحفاظ على وحدة حكومته الائتلافية الهشة، ساهمت دون شك في تفاقم الأزمة.
في خضم المجازر والدمار الذي خلّفه الهجوم الإسرائيلي المستمر على غزة، تتسرّب الأزمة السياسية الداخلية في تل أبيب إلى حكومة الحرب المصغرة التي تم تشكيلها لتوجيه الحرب. ويشير الخلاف بين نتنياهو والمسؤولين العسكريين، إلى جانب رفضه الأولي لمتابعة الهدنة الإنسانية ومبادرات إطلاق سراح السجناء، إلى أزمة متجذّرة في رئيس الوزراء نفسه. إن سعي رئيس الوزراء اليائس إلى التمسك بحصانته السياسية وتجنّب السجن جعله حريصاً على إطالة أمد الحرب على غزة، وهو يعتقد أن ذلك سيمنحه وقتاً أطول للتوصل إلى تسوية للخروج من ورطته، وعلى الأرجح تحت رعاية الولايات المتحدة، لتجنّب مصير مماثل للعدوان الذي شنّه رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت على لبنان في عام 2006.
نتنياهو الذي يدرك تماماً أن القضاء على المقاومة الفلسطينية هدف مستحيل، يستخدم علانية هدف الحرب هذا كغطاء لنتائج مفيدة استراتيجياً أخرى يسعى لتحقيقها، تتمثل في السيطرة على غاز غزة، وإحياء مشاريع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء والأردن، والدفع باتجاه مواجهات مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، بالإضافة إلى التخلص من حلفائه المتطرّفين.
صراع الليكود الداخلي
وبالاعتماد على دعم واشنطن وسط انشغال الرئيس الأمريكي جو بايدن بالانتخابات الرئاسية لعام 2024، وتشابك التعاطف الأوروبي مع احتياجات “إسرائيل” من الغاز، والتعبير العربي عن القلق دون اتخاذ إجراءات جوهرية، ينخرط نتنياهو في مقامرة عالية المخاطر. إن إعادة الاحتلال المحتمل لساحل غزة، بثروته من الغاز وموقعه الاستراتيجي -والذي ينظر إليه بعض المراقبين على نحو متزايد على أنه اللعبة النهائية لـ”إسرائيل” في الحرب- يمثل جائزة إضافية لنتنياهو، الذي أصبح موقفه السياسي هشاً على نحو متزايد. وبعيداً عن المكاسب المباشرة، فإن إحياء المشروع الإسرائيلي القديم، قناة بن غوريون من شمال غزة إلى إيلات، من الممكن أن يعيد تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية والجيواقتصادية الإقليمية من خلال تجاوز قناة السويس في مصر.
ومع ذلك، فإن القلق الأساسي لنتنياهو ليس مجرّد نتيجة للحرب أو تراجع الدعم الدولي، بل الانقسام الوشيك داخل حزبه، حيث يعترف حزب الليكود بأن نتنياهو هو مصدر الأزمات السياسية المستمرة منذ سنوات، التي تميّزت بخمس انتخابات غير مثمرة منذ عام 2019 وتعميق الانقسامات السياسية في “إسرائيل”.
إن إرث نتنياهو أصبح الآن على المحك في الوقت الذي تواجه فيه سلطات الاحتلال التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية المتعدّدة الأوجه لحربها في غزة. إن الردّ العسكري غير المتناسب من جانب “إسرائيل” ضد السكان المدنيين الذين أغلبيّتهم الساحقة – أكثر من 20 ألف فلسطيني قتلوا في ستة أسابيع – قد أدّى إلى تفاقم الظروف الأمنية لكيان الاحتلال من خلال إشراك محور المقاومة في المنطقة.
ومن هنا فإن الشعور المتزايد داخل حزب الليكود هو أن قدرته على البقاء في السلطة تتوقّف بشكل متزايد على الإطاحة بزعيمه. وقد اكتسبت هذه الإدانة زخماً مع الاقتراح الأخير الذي قدّمه زعيم المعارضة ورئيس حزب “يش عتيد”، يائير لابيد. في الأساس، عرض لابيد المشاركة في حكومة الليكود لأن نتنياهو لم يقُدها. وعلى العكس من ذلك، يدرك حلفاء نتنياهو من اليمين المتطرّف أن الحكومة الحالية هي فرصتهم الوحيدة للحفاظ على السلطة وتنفيذ أجنداتهم المتطرّفة، وهم يستخدمون هذا النفوذ لإجبار نتنياهو على الاحتفاظ بالمساهمات المالية للأحزاب والمؤسسات الدينية، وإضفاء الشرعية على المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإخفاء الجرائم ضد الفلسطينيين، وهي عوامل ساهمت في شنّ عملية “طوفان الأقصى”.
ويعترف نتنياهو بأن التورّط الواضح للولايات المتحدة في حربه يمكن أن يزيد الأمور تعقيداً. ومع ذلك، فإن بايدن حذر بالقدر نفسه بشأن المشاركة المباشرة، بالنظر إلى التهديدات الخطيرة والإجراءات ضد القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسورية التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالتصعيد الإسرائيلي في كل من غزة وعلى حدودها اللبنانية، كما نجح طوفان الأقصى في تأجيل مشروع التطبيع الإسرائيلي الذي طرحه البيت الأبيض وإضعاف المشاريع القائمة، على الأقل حتى يتم التوصل إلى تسوية فلسطينية مقبولة. إنّ أيّ تورّط أمريكي في الحرب الإسرائيلية من شأنه أن يعزّز بشكل كبير مصالح خصومها الروس والصينيين في مختلف أنحاء غرب آسيا وخارجها.
لعبة الانتظار في واشنطن
ومع الانتخابات الرئاسية المقبلة، قد يواجه الديمقراطيون الحاليون صعوباتٍ في مقاومة هذه التهديدات التي تهدّد المصالح الإقليمية للولايات المتحدة. ومع تحوّل المشاعر العامة بشكل حاد ضد الأعمال الوحشية التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة، يتزايد الاستياء الداخلي إزاء طلبات بايدن المستمرة للحصول على مساعدات عسكرية ومالية لأوكرانيا وإسرائيل، كما تظهر مناشدته الأخيرة للحصول على 106 مليارات دولار. وتتفاقم التحدّيات التي يواجهها بايدن بسبب علاقاته المتوترة بالفعل مع حكومة نتنياهو.
إذا تمكّنت إدارة بايدن من إرساء الأساس لحل الدولتين – وهو أمر بعيد المنال وغير محتمل- فيمكنها استغلال هذا سياسياً وتحقيق “الفوز”. ولكن نتنياهو من جانبه يهدف إلى إطالة أمد العدوان على غزة حتى تذعن واشنطن لأجندته أو حتى يحدث تغيير في البيت الأبيض. وعلى الرغم من أن بعض اللاعبين الإقليميين والغربيين يعتمدون على نتائج الحرب التي تفتح الطريق لاستئناف المحادثات حول تسوية سلمية دائمة، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يحقّق بعد أي نصر ملموس ضد المقاومة الفلسطينية. على الرغم من تصاعد التطرّف بعد طوفان الأقصى، لا تزال الأصوات في “إسرائيل” تعرب عن تمسّكها بمعادلة الأرض مقابل السلام، التي عبّر عنها بشكل خاص زعيم المعارضة يائير لابيد.
ومن خلال تحقيق التوازن بين الطريق المسدود والفرصة، تهدف الجهود المستمرة إلى توجيه جميع الأطراف نحو التسوية. ومع ذلك، أصبح الوقت عاملاً حاسماً بالنسبة للبيت الأبيض. إن التحديات العديدة التي تواجهها سلطات الاحتلال، بدءاً من مواجهة التهديدات من محور المقاومة في غرب آسيا، ومواجهة النفوذ الصيني والروسي، إلى التغلب على المسؤوليات السياسية لحكومة نتنياهو، لها ثقلها الكبير. ومن الجدير بالذكر أن التداعيات المحتملة لفشل نتنياهو تلوح في الأفق، ولن تتمكّن أي مشاريع جيوسياسية من إخفاء عواقبها.