قدرات المقاومة لم تتأثّر بالعدوان
د. معن منيف سليمان
تواصلت قدرات المقاومة الفلسطينية القتالية والصاروخية واللوجستية، على الرّغم من وحشية العدوان الإسرائيلي المستمر، ولم تتأثّر مصادر قوّتها بفعل الضربات الجوية المدمّرة والمكثّفة على قطاع غزّة. وعلى النقيض من ادّعاءات القضاء على حركة المقاومة، يشير عدد متزايد من الخبراء إلى إمكانية انتصار المقاومة أو هزيمة “إسرائيل”، بل يذهب بعضهم إلى تأكيد أن المقاومة قد انتصرت بالفعل.
كان الجيش الإسرائيلي قد أعلن لأكثر من مرّة، خلال الأيام الماضية، من حربه على غزّة أن هدفه النهائي من العملية يتمثّل في القضاء على الوجود السياسي والعسكري لقيادة “حماس”. ومنذ بدء الحرب في غزّة لم يهدأ القصف الجوي على القطاع المحاصر. فقد تصاعدت التهديدات الإسرائيلية التي تتحدّث عن “القضاء على حماس” و”سحق حماس” و”محو حماس”، واختلفت مقاربة حكومة الحرب في “إسرائيل” لمستقبل الحكم في قطاع غزّة، إذ أعلن القادة الإسرائيليون أن حركة “حماس” سوف “تُمحى من على وجه الأرض”، وأن غزّة “لن تعود أبداً إلى ما كانت عليه”. وهو الموقف الأمريكي نفسه الذي يركّز على القضاء على حماس وتحويل قطاع غزّة إلى منطقة منزوعة السلاح، وخاضعة لإدارة السلطة الفلسطينية.
وبالإضافة إلى هذه الأماني البعيدة المنال، فإن ادّعاءات إسرائيلية تبعتها تقول: إن القصف المكثّف والعنيف خلّف أضراراً في البنى التحتية العسكرية ومقرّات القيادة العملياتية وفتحات الأنفاق، ومنصّات إطلاق القذائف الصاروخية لحماس، فضلاً عن ادّعاءات خسارة حماس لبعض قياداتها.
ولكن في الواقع الأهداف الإسرائيلية التي جُنّد لتحقيقها أكثر من 300 ألف جندي من القوات النظامية والاحتياط ودعم أمريكي وغربي غير مسبوق بحاملات الطائرات والأسلحة والمعدات العسكرية المختلفة، لم تؤثر في قوّة حماس والمقاومة العسكرية والميدانية، وعلى الأرض المقاومة لم تتزحزح، وصواريخها دكّت تل أبيب ومستوطنات إسرائيلية أبعد من غلاف غزّة في عمق الضفة الغربية، وقادة حماس والمقاومة في بيانات ما بعد الهدنة نبضها أقوى وأشدّ حماسة وتحدياً لـ”إسرائيل” وحلفائها. وبذلك تكون الآمال الأمريكية والإسرائيلية قد أخفقت في تحقيق واحد من الأهداف الاستراتيجية لحرب غزّة، وهو تصفية حماس وتدمير قدراتها العسكرية، وبعكس الآمال الأمريكية والإسرائيلية فإن شعبية حركة حماس والمقاومة تزداد وتتضاعف فلسطينياً وعربياً وإسلامياً.
ويشير إلى ذلك المسؤول السابق في “البنتاغون”، دي روش، بقوله إن: “إسرائيل لم تحقق أهدافها في شمالي غزّة بعد”.
ومن جهة يرى باحثون في الشؤون الأمنية، أن إعلان المسؤولين الإسرائيليين نيتهم التوجه جنوباً يمثّل “هروباً للأمام ليس أكثر”، إذ كيف يمكن لجيش أن ينتقل من مرحلة إلى أخرى دون أن يتمكّن من إنجاز التي سبقتها؟.
ولكن من الواضح أن القرار الصهيوني مستمرّ في استراتيجية الإبادة البشرية، وتدمير القطاع، إلى جانب محاولات لإحداث اختراقات في جغرافيا القطاع، ومع ذلك إلى هذا الوقت استعصى عليه تحقيق إنجاز عسكري ملموس منذ بداية الحرب.
ولكنه تمكّن من إحداث اختراق في عدّة نقاط، والتوسّع في التمدّد في الشمال كهدف عاجل، وقد حاول ناطقه العسكري، المبالغة فيما حدث من اختراقات، وذلك بتضخيم أهميتها لتأجيج حرب نفسية لدى متلقّيها، من المتعاطفين مع المقاومة، أو الحريصين على إنزال الهزيمة في الاجتياح العسكري لقطاع غزّة. على أنّ الذي يجب أن يعلمه الجميع أنه لا تغيّر في ميزان القوى العسكري، كما لا تغيّر في المحصّلة النهائية للحرب، وذلك من خلال التأكيد أنّ الجسم الرئيسي لقوات المقاومة، ما زال في كامل جاهزيته، وتصدّيه المستمر للاختراقات، وإنزاله الخسائر الفادحة في الأفراد والآليات، كما أنّ المقاومة ما زالت مسيطرة على الوضع العام وإدارة التصدي، بأعلى مستوى عسكري. ولن يستطيع العدو تحويل الاختراقات الجغرافية إلى واقع على الأرض، على الرغم من انتهاجه سلوكاً عسكرياً ميدانياً ظهر أشدّ فتكاً وأصعب تبعات من الاعتداءات السالفة والهدف ما زال بعيد المنال.
إن العمليات لا تزال في الشمال على الرغم من كل التدمير لأن “إسرائيل” تحجم عن إدخال قواتها البرية في عملية تفتيش الأنفاق، وبالتالي ما تقوم به هو سيطرة على سطح الأرض، دون التمكّن من البنية التحتية.
ويبقى الحكم على المفاعيل، أيّ أنّ هذا التقدّم سواء شرقاً أم غرباً وشمالاً أو لسان الوسط، إذا كان صحيحاً، فهو يعني محاصرة المقاومة في غزّة وقطع تواصلها بين الشمال والجنوب تمهيداً لتقطيع الأوصال، داخل الشمال ثم داخل الجنوب، والإطباق على غزّة وتعقيد التنقل بين شمالها وجنوبها، ما يعقد حياة أبناء غزّة، لكنه لا يقدّم ولا يؤخّر في حال المقاومة، التي تملك شبكة هائلة من الأنفاق تحت غزّة. ومن الثابت عبر فاعلية خطوط الاشتباك وإطلاق الصواريخ وتحريك مدافع الهاون وتأمين الذخائر، ومنظومة الضبط والسيطرة، أنها لم تتأثّر بالذي يجري فوق الأرض. وهذا يعني أنه حتّى لو نجح الاحتلال بتقطيع أوصال شمالي غزّة ومدينة غزّة، فإنّ غزّة التي تقبع تحت الأرض، وتختزن المقاومة، ستبقى كتلة موحّدة تتحرّك بفاعلية وتخرج من حيث تريد وتقاتل ثم تعود إلى مخابئها، وكلّ الخبراء العسكريين من قادة سابقين في جيش الاحتلال ومخابراته يُجمعون على أنّ المعركة لم تبدأ بعد، وأنّ المقاومة لم تقل كلمتها الفاصلة بعد.
وكان خبراء ومحلّلون قد سلّطوا الضوء على القدرات العسكرية التي طوّرتها المقاومة خلال السنوات الماضية، مرجّحين أن الحركة تخبّئ “مفاجآت” لم تكشف عنها بعد، وخاصة فيما يتعلّق بمسيّرات مائية وأسلحة أخرى جديدة.
وقال فابيان هينز، خبير الصواريخ ومحلّل الدفاع في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وهو مركز أبحاث بريطاني: “من الوارد جدّاً أن تمتلك حماس قدرات لم نرَها بعد، ولكن قد نكتشفها لاحقاً”.
وكان الجيش الإسرائيلي قدّر أنه قتل نحو ألف مقاتل من حماس، وهو جزء صغير من القوة التي يبلغ عددها نحو من 30 ـ 40 ألفاً، كما أن خسارة حماس لبعض من قياداتها قد يكون له أثر معنوي فقط، لكنه لن يؤثّر في قدراتها القتالية. هناك قيادات عدّة قتلوا على مرّ الأعوام الماضية ولم تنته الحركة ولم تتوقّف أنشطتها، بل زادت قوّة وأداؤها تطوّر بشكل ملحوظ.
كذلك، تحدّثت وسائل إعلام إسرائيلية عديدة بخصوص ظهور مقاتلي كتائب الشهيد عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس، في مناطق شمالي قطاع غزّة التي شهدت أعنف الأعمال القتالية والتوغّل البرّي الإسرائيلي، مُشدّدةً على أنّ الحركة نجحت في إظهار قدرتها على إرسال عناصرها إلى شمالي غزّة “على الرغم من وجود الجيش الإسرائيلي في مكانٍ قريب”.
إن القضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة وتقسيم قطاع غزّة وتهجير الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء، هو مجرّد وهم تغذّيه رغبة بالانتقام، تستند إلى حالة خوف وجودية أدّت إلى حملة إبادة وعقاب جماعي وجرائم حرب، تقودها غطرسة استعمارية صهيونية مدعومة من قوّة أمريكية إمبريالية، مسندة من أنظمة عربية استبدادية. وعلى النقيض من ادّعاءات القضاء على حماس، يشير عدد متزايد من الخبراء إلى إمكانية انتصار حركة حماس أو هزيمة “إسرائيل”، بل يذهب البعض إلى تأكيد أن حماس قد انتصرت بالفعل.