جلال الدّين الرومي من التّدريس إلى الصّوفية
فيصل خرتش
وُلدَ الشّاعر والعالم جلال الدّين البلخي في السّادس من ربيع الأوّل سنة 604 هـ/ في شهر أيلول 1207 م بمدينة “بلخ”، واضطر على الهجرة من مدينته، فتنقّل من بلدٍ إلى آخر، إلى أن حطّ به التّرحال في مدينة “قونية” عاصمة دولة السّلاجقة، ومات ودفن فيها سنة 672 هـ/ 1273 م، ولقّب بجلال الدّين الرّومي، وتتلمذ على يد والده “بهاء الدّين”، ثم تابع تدريسه “برهان الدّين” صديق والده سنوات عدّة، ونصحه بزيارة دمشق التي توجّه إليها مروراً بحلب التي كانت تعدّ مركزاً فكرياً مهمّاً فيها كبار الفلاسفة والعلماء.
وبعد عودته إلى قونية، تسلّم جلال الدّين مهام التّدريس في المدينة، فتجمّع حوله التّلاميذ والمريدون، وخارج أوقات التّدريس كان يقضي وقته بالتّأمّل، والتقى بـ”شمس الدّين التّبريزي”، وترك هذا اللقاء أثراً كبيراً في حياة جلال الدّين، فقد تحوّل إلى الانصراف إلى الله كلياً، ودخل إلى عالم التّصوّف.
عُدّ جلال الدّين من أعظم شعراء الصّوفية، ويمتاز شعره بقوّة البيان وبراعة التّصوير، وبتقديم الفكرة بصور متعدّدة، وبدعم آرائه ونصائحه فيها لتكون كاملة، ويمزج بين الطّبيعة والحياة والنّفس الإنسانية إلى صورة متكاملة تنقل الإنسان إلى أعماق التّأمّل في النّفس البشرية، وهو يتّخذ من الحكم والأمثال مادّة في عرض فلسفته الصّوفية، فجاءت واضحةً ونافذة إلى عمق النّفس البشرية.
تعتمد مصادر فلسفة الرّومي على الأفلاطونية المحدثة والفلسفة الهندية، كذلك نجد تأثيراً للشّعر العربي، فهناك أبيات شعرية تذكّرنا بشعر المتنبي، وللموسيقا دور في شعره، إذ يعدّ أوّل من توسّع في إدخالها إلى مجالس الصّوفية، وكان للنّايّ مكانة خاصّة عنده، لأنّ موسيقاه تتّصل بالعشق، ويعد رقص السّماح مع الموسيقا، من أشهر الطّرق المولوية، وهو طقس له رمزيّته، فالثّياب البيض التي يرتديها الرّاقصون ترمز إلى الأكفان، والمعاطف السّود ترمز إلى القبر، والبساط الأحمر يرمز إلى الشّمس الغاربة، والدّورات الثّلاث حول باحة الرّقص ترمز إلى المراحل الثّلاث في التّقرّب إلى الله: العلم والرّؤية والطّريق إلى الله، وسقوط المعاطف السّود يعني الخلاص، والتّطهّر من أدران الدّنيا، وتذكّر الطّبول بالصُور يوم القيامة.
وتقسم دائرة الرّاقصين على نصفي الدّائرة، ويمثّل أحدهما “قوس النّزول” ويعني انغماس الرّوح في المادّة، ويمثّل الآخر “قوس الصّعود”، أي صعود الرّوح إلى بارئها، ويمثّل دوران الشّيخ حول مركز الدّائرة “الشّمس وشعاعها”، أمّا حركة الدّراويش فتمثّل القانون الكوني، ودوران الكواكب حول الشّمس وحول مركزها، والأنغام المشوّقة للنّاي يمكن أن تعبّر بشكلٍ جيّدٍ عن العشق والشّوق، وسمّيت “الطّريقة المولوية” وانتشرت في قونية، وهي من الطّرق القليلة التي تعتمد على العقل لمعرفة الحقّ، والعقل يهدي إلى الرّشد، ويستدلّ به على وجود الله تعالى، وانتشرت في البلاد العثمانية، وأسست مراكز لها في حلب ، ودمشق والقاهرة والقدس، وسمّيت هذه المراكز بالـ”تكيات”، والجدير بالذّكر أنّها سمّيت مولوية نسبة إلى لقب “مولانا” جلال الدّين الرّومي الذي أثّر في علماء كثيرين، ولقيت طريقته عناية فائقة من علماء المسلمين والمستشرقين أمثال الألماني “جورج روزن” والإنكليزيان “سير جيمس ردهاوس” و”نيولد نيكلسون”، ولا تزال الطّريقة المولوية مستمرة إلى يومنا هذا في مركزها قونية.
وكان للمولوية في مدينة حلب صومعتان، الأولى “المولى خانة” وتقع في حي بستان كل آب، والثّانية هي تكية الشّيخ أبي بكر، وتقع على الطّرف الجنوبي من حيّ الميدان، وهناك أيضاً زاوية السّهروردي، وتقع خارج باب الفرج قرب بوابة القصب، وأنشأها حسين الميداني ( ت 934 هـ/1527 م ) وأصبح المسجد زاوية يقام فيها الذّكر، وتعدّ التّكية المولوية “المولى خانة” من أعظم تكايا الطّريقة المولوية وأجملها موقعاً وأمتنها وأوسعها بناءً وأكثرها أوقافاً، وهي منسوبة إلى جلال الدّين الرّومي، وأنشأها ميرزا فولاد بالاشتراك مع ميرزا علوان، وقد أخذا الطّريقة عن أحد مشايخ المولوية، وتولّى مشيختها أوّل مرّة العالم الصّوفي أحمد مقري دادا سنة ( 937 هـ/1530 م) ، وأصبحت المركز الرّئيس للمولوية، وتأثّر بناء التّكية التي تقع بالقرب من باب الفرج، بتكية قونية من حيث مكان للمتفرجين ، وظهور الشّرفة في الطّابق العلوي لجلوس النّساء، وكذلك السّدة لجلوس المنشدين.